رحل عن عالمنا الدكتور «محمد حافظ دياب» أستاذ الأنثروبولوجيا فى جامعة بنها ورئيس وحدة البحوث الاجتماعية بالمركز العربى للبحوث.
خسارتنا فى رحيله جسيمة، لأنه يعد من أكبر علماء الاجتماع فى مصر والعالم العربى. ويشهد على ذلك أولا مسيرته الأكاديمية وقيامه بالتدريس فى عدة جامعات عربية هى جامعة عنابة بالجزائر، وجامعة الرياض بالسعودية، وجامعة ناصر بليبيا، وبعد ذلك استقر فى جامعة بنها بمصر المحروسة وخلال ذلك أشرف على العديد من رسائل الماجستير والدكتوراه وكون بذلك جيلا كاملا من الباحثين الموهوبين الذى استفادوا من غزير علمه وتشبعوا بالقيم العلمية الرفيعة التى غرسها فيهم وأهمها على الإطلاق العلاقة الأكاديمية والإنسانية بين الأستاذ المعلم وطلبته. لقد رباهم على التطبيق الفعال للمنهج النقدى الذى يطرح كل المشكلات سياسية كانت أو اجتماعية أو دينية أو ثقافية للمساءلة.
وكان هو نفسه بحكم ثقافته الموسوعية وتملكه ناصية النظرية فى مجالات الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع والفولكلور وسوسيولوجيا الأدب- نموذجا فذا للباحث الجسور فى مجالات العلم الاجتماعى كافة.
ويشهد على ذلك إنتاجه الأصيل والمتنوع فى مجالات معرفية متعددة.
ويلفت النظر حقا فى مسيرته العلمية الحافلة أنه لم يقنع بإجراء البحوث والدراسات من زاوية أكاديمية بحتة ولكنه -أبعد من ذلك- قام بدور الناقد الاجتماعى الذى يواجه المشكلات التى تواجه المجتمع وخصوصا ما يتعلق بالاتجاهات الدينية المتطرفة التى روجت لها تنظيمات دينية شتى فى مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين والتيارات السلفية، والتى تحولت فى لحظات تاريخية محددة إلى تنظيمات جهادية تكفيرية تمارس الإرهاب على المستوى المحلى وعلى المستوى الإقليمى ثم من بعد على المستوى العالمى.
وقد تصدى «حافظ دياب» بجسارة وبمقدرة علمية فذة للتحليل النقدى لفكر «سيد قطب» المنظر الإخوانى الشهير فى كتابه «سيد قطب.. الخطاب والأيديولوجيا»، واستطاع بتطبيق منهجية تحليل الخطاب الوصول إلى المفردات الرئيسية التى قام عليها الخطاب القطبى.
وترد أهمية هذا الكتاب فى أن نظرية «سيد قطب» التكفيرية هى منبع الاتجاهات المتطرفة والتى تبنتها تنظيمات إرهابية متعددة.
وقد استطاع الدكتور «دياب» أن يلتفت إلى التنظيمات السلفية التى استطاعت خلق الوعى الدينى الزائف لدى قطاعات واسعة من الجماهير بحكم انتشار الأمية والفقر وتدنى مستوى التعليم. وقد تصدى للفكر السلفى فى كتابه «السلفيون والسياسة» وهى دراسة تاريخية وفكرية وسياسية للحركات السلفية فى العالم العربى ومحاولاتها قديما وحديثا فى الدخول إلى عالم السياسة والسيطرة بأفكارها الأصولية على الدول والشعوب وقد عمق الدكتور «دياب» أبحاثه عن الحركة السلفية فى كتابه نقد «الخطاب السلفى».
ويلفت النظر حقا التنوع الشديد فى الإنتاج العلمى للدكتور «دياب» وقدراته العلمية على بحث موضوعات تنتمى إلى ميادين علمية متعددة.
ويشهد على ذلك كتابه «مقدمة فى علم اجتماع اللغة»، وكتاب آخر عن «إبداعية الأداء فى السيرة الشعبية»، وذلك بالإضافة إلى تعريفه بالاتجاهات البحثية فى الدراسة الاجتماعية للأدب والدراسة النقدية للإبداعات القصصية والروائية والشعرية.
لقد تتبعت بدقة تطورات المشروع العلمى للدكتور «محمد حافظ دياب» بحكم صداقة عميقة جمعتنى معه، لأننى كنت معجبا بمشروعه العلمى المتكامل، وأشهد أننى تعلمت كثيرا من كتاباته المبدعة فى ميادين شتى.
ولكن لو تأملنا بدقة مساره الجامعى لاكتشفنا أن المجتمع الأكاديمى أو بعض عناصره على الأقل كانت لديهم مشكلات جسيمة تتعلق بظاهرة الحسد المهنى التى تنتاب الفاشلين وغير المبدعين من الأساتذة الجامعيين الذين يرتقون درجات السلم الوظيفى بالأقدمية، أو بتقديم أبحاث أكاديمية هزيلة لا ترقى إلى المستوى الرفيع لأبحاث «حافظ دياب».
وأعلم بحكم اهتمامى بسوسيولوجيا العلم أن «الشللية» يمكن أن تعوق أحيانا الأكاديميين المبدعين من خلال شن الحرب عليهم، ومحاولة تعطيل مسيرتهم باتباع وسائل رخيصة، ويساعد على تحقيق أهدافهم الروتين العقيم فى مجال ترقية أساتذة الجامعات والذى يؤدى فى بعض الحالات إلى إعاقة مسيرة المبدعين. غير أن الدكتور «دياب» ركز على مشروعه الفكرى وواصل إنتاجه العلمى الغزير بغير أن تعيقه عن ذلك «المؤامرات الأكاديمية».
وقد كانت سعادتى غامرة حين حصل الدكتور «دياب» على جائزة الدولة التقديرية فى العلوم الاجتماعية على مجمل إنتاجه العلمى، وهى الجائزة الرفيعة التى تعد اعترافا من المجتمع العلمى والثقافى بأصالة إنتاج من يحصل عليها.
ولقد كان لحصول الدكتور «دياب» على هذه الجائزة صدي أكاديمي وثقافى عميق، فالأكاديميون يعرفون بدقة قيمة إنتاجه العلمى رفيع المستوى والمثقفون تابعوا بدقة منجزه الفكرى العميق.
لقد كان الدكتور «محمد حافظ دياب» أحد أبرز الخبراء المرموقين الذين تشكلت منهم الهيئة العلمية بالمركز العربى للبحوث. وهذا المركز الذى ينعقد فيه كل ثلاثاء جلسة فكرية وعلمية لمجلس الخبراء شهد مناقشات وإسهامات بالغة العمق للدكتور «دياب»، الذى شارك بفصل هام فى الكتاب المرجعى للمركز والذى صدر بعنوان «الخرائط المعرفية للعالم المعاصر». وأذكر أنه بعد أن صدر هذا الكتاب الهام الذى يحدد الأطر النظرية لخبراء المركز أن قال لى ـ بلغته العربية الفصحى ـ هذا الكتاب «مبتدأ لابد له من خبر»، بمعنى أنه لابد أن تعقبه بحوث وكتب أخرى يصدرها المركز.
وقد حققنا رغبة الدكتور «دياب» وصمم المركز خطة بحث شاملة عن «الخرائط المعرفية للشرق الأوسط» باعتباره المشروع الأساسى الذى يشارك فيه كافة خبراء المركز.
رحم الله الدكتور «دياب» أكاديميًا أصيلًا وناقدًا اجتماعيًا جسورًا.