ليس من المطلوب أن تمر أنت بالتجربة السيئة حتى تتعظ، يكفيك أن تسمع، أن ترى أو تعايش ما مر به غيرك، وما وصل إليه سواء بسبب أخطائه أو بسبب أقداره، وكل ما عليك هو أن تتجنب ما وقع به الشخص، وأن تكون واعيًا بدرجة كافية حتى لا تنزلق قدمك للحفرة التى دفن فيها.
قمة الغباء أن تفعل نفس الشيء، رغم أنك رأيت وأدركت أن الشخص الذى فعله سقط به إلى الهاوية. أنت إذن تضع نفسك فى موضعه، وهى بداية النهاية بالنسبة لك، خاصة إذا كنت تبدأ فى تجربة جديدة وبسمعة نظيفة وتملك قلوب من حولك، فأنت إذن تعمل ضد نفسك وتوفر على عدوك أو من يتربص بك مجهود ضررك وإسقاطك، أنت تقوم بدوره نيابة عنه توفر وقته ومجهوده وماله دون أن تدري، هو فقط يشاهدك ويتابعك عن بعد أو قرب وأنت تدمر نفسك بنفسك.
عن تجربة صديق.. كان يملك مشروعا كبيرا مهما ومربحا، وأسند إدارته إلى شخص كان يثق به ثقة كاملة، فقد كان تتوافر فيه كل المؤهلات التى تمكنه من إدارة المشروع بكفاءة، ورحب به العمال فى بداية عهده وعملوا معه بجهد يليق بمدير كفء، ولكن كما يحدث دائمًا فإن المدير الذى يمكث فترة طويلة يَفسد ويُفسد من حوله، فقد ظل مديرا للمشروع سنوات طويلة تعدت الثلاثين عاما، أول عشر سنوات كان مقبولا، ولكن بعد ذلك تمكن من كل صغيرة وكبيرة فى المشروع وأصبح له حاشية ورجال قريبون منه، وأصبحوا سندا له وظهرا يحميه بعد أن فسد تماما وأصبحت غالبية أرباح المشروع تذهب لجيبه، فتضخم كثيرا وتراكمت أمواله وكثر بطشه، والعمال كانت حالتهم من السيئ إلى الأسوأ.. أما الحاشية فتضخموا أيضا وأصبحوا مراكز قوى فى المكان، يفصلون العمال ويسجنون منهم من يتصدى لهم، وسيطروا على المشروع سيطرة تامة، وكان هذا نذير شؤم.
خرب المشروع العريق على أيدى المدير ورجاله المقربين، ورغم صبر العمال الذى استمر سنوات طويلة، فاض بهم الكيل بعد ذلك وتمردوا وامتنعوا جميعهم عن العمل وربطوا عودتهم بإقالة المدير وحاشيته، وطبعا اضطر مالك المشروع إلى الانحياز للعمال ضد الكبار ووقف فى صفهم وأجبرهم جميعا على الاستقالة وخلعهم من الإدارة، ولكن خطأ العمال الأكبر كان عدم اتفاقهم على بديل، وعدم اختيار شخص مناسب يثق به الجميع من بينهم لتولى شئونهم.. وهو ما جعل الرجل المتدين الملتحى الذى كان طوال الوقت يصلى ويصوم ويدعوهم إلى أن يتقوا الله.. يتقدم ليتولى مسئولية المشروع بعد رحيل المدير الفاسد وشلته.. واتفق عليه نصف العمال والنصف الآخر تحفظ على اختياره ولكنهم صمتوا بترقب لعله يفلح.
ولم يفلح، بل إن المتدين خرب المشروع مثل الذى سبقه وأكثر، وجمع المتدينين مثله من بين العمال وأعطاهم كل المناصب القيادية فى المشروع، وبدا للجميع أنه ومن معه يريدون أن يأخذوا المشروع لهم فقط، دون غيرهم وبدأوا فى اضطهاد العمال وإبعادهم عن العمل فى المشروع، وخلق الفتنة والوقيعة بينهم، كما أنهم فرضوا قوانينهم الخاصة على المشروع كله، فرضوا الحجاب على كل العاملات، كما أنهم مثل من سبقوهم أخذوا أرباح المشروع فى جيوبهم وألقوا بالفتات للعمال، ولكن الخطر الحقيقي، كان فى تآمرهم على المشروع لمصلحتهم الشخصية، فكانوا على وشك تفكيكه واتفقوا على أن يبيعوا أجزاء منه لغرباء منافسين، وعندما اعترض العمال قالوا لرجالهم إنهم كفار يعترضون على الحجاب والصلاة فى المؤسسة، فتجمعوا ضدهم واعتدوا عليهم ضربا وطعنا وقتلا.. ولكن العمال كما هم دائما وأبدا.. الضربة تقويهم ولا تقتلهم.. صمدوا وتمردوا وثاروا على المدير القاتل وجماعته التى تتاجر بالدين، وعلموا أنه «بالبلدي» ضحك عليهم واستغلهم ونصب كمان باسم الدين، ومالك المشروع للمرة الثانية.. انحاز لهم لأن كل الحق معهم، وأجبر المدير المتدين على الاستقالة ولكنه أبى واستكبر مستقويًا بجماعته، وهو ما جعل المالك يقوم بإقالته أو «عزله»، وفرح العمال بشدة وعشقوا المالك وجعلوا منه أيقونة الخلاص والسوبر مان الذى أنقذهم من الهلاك مرة والثانية.
وهو ما جعل المالك يقدم بنفسه على إدارة المشروع.. وسط ترحيب كبير من غالبية العمال وليس نصفهم هذه المرة، وبقيت مجموعة أخرى لا ترضى عن أن يدير المالك بنفسه.. والمعترضون بعضهم كان يريد منه أن يبقى مكانه لينصرهم وقت اللزوم كما حدث من قبل، وبعضهم اعترض لأن هذا ليس دوره لأن الملكية والإدارة لا يصلح أن يجمع بينهما أحد أيًا كان.. وكانوا يريدون أن يتولى الإدارة عامل من بينهم.. والمدير الجديد الذى هو مالك للمشروع تحرك وهو ملتف بحب العمال ومساندتهم، ولكن المدهش أنه بدأ فى الوقوع فى نفس أخطاء من سبقوه رغم أنه يختلف عنهم تماما فهو مخلص يعمل للمشروع والعمال فقط، ولكن يبدو أنه يفقد البوصلة ونسى ما لحق بمن سبقوه من ضياع بسبب نفس الأخطاء.
وبدأت الحاشية الأفّاقة تلتف حوله فهم رجال لكل العصور، ويبنون مع الوقت حاجزا بين أى مدير والعمال حتى لا يرى الحقيقة بل ما يريدون، وهو ما أدى إلى اتخاذه قرارات خاطئة ضد العمال، وليست فى صالح المؤسسة وفى نفس الوقت يفعل كل ما فى وسعه للنهوض بالمؤسسة من جديد، وانتشالها من الخراب الذى لحق بها على أيدى المديرين السابقين، واستطاع فى وقت قصير إصلاح بعض مما أفسدوه، ولكن القرارات الخاطئة تجعله مع مرور الوقت شبيهًا بالسابقين وخاصة أنه يسير على نهجهم فى إسكات أى صوت عمالى يعترض على شيء، ولا يدرى أن ذلك هو بداية النهاية، هو بداية لغضب مكتوم بين العمال المساندين له.. وإن سكتوا عن أخطائه من أجل بقاء المشروع، فهذا لا يعنى السكوت للأبد.. آفة مشروعنا النسيان.