من سنين طويلة جدا ونحن أطفال صغار فى شوارع الصعيد ونحن نسمع عن ذلك الرجل «اللى شايل طاجن ستو».. لكن لم يخطر فى بالنا، نحن الصغار طبعا أن نسأل «هو الطاجن فى إيه».. والطاجن لمن لا يعرفونه من أبناء المدن والمدارس الدولية، هو قدر من الفخار كنا نستعمله كإناء للطعام، وقطعا هو مختلف تماما عن «شكل الطواجن» التى استحدثتها المطاعم مؤخرا فى المهندسين ومدينة نصر، فالأول -بتاع الصعيد يعني- يتم سمطه فى النار حتى يتحول جسده الفخارى إلى ما يشبه الفحم الأسود، وعملية السمط تلك يستخدم فيها العسل الأسود مع النار الموقدة حتى يصير كلاهما -الفخار والعسل- مادة جديدة أفضل من النحاس وأشد من الألمونيوم الذى لم نعرفه فى الصعيد إلا أيام جمال عبدالناصر، المهم، أننا لم نسأل يوما عن ذلك الطاجن الذى يشيله الرجال فوق رءوسهم رغم أننا لم نلمح فى حياتنا رجلا يشيل طاجن، فعملية شيل الأوانى تلك كانت وما زالت عملية نسائية بحتة، واعتبرنا حين كبرنا ذلك المثل الشعبى إرثا صعيديا خاصا وتعبيرا شعريا ليس أكثر عن الرجال الذين يشيلون الأحزان ويصرونها فى رءوسهم كلما ضاقت بهم الدنيا وأتعبتهم لكنهم لا يشتكون، وبالبلدى كده، هو تعبير أقرب لتعبير «اللى لاوى بوزو»، والبوز قطعا جميعنا يعرف أنه «الفم»!
طيب الطاجن وعرفناه، إنما مين «ستو» دي؟! باختصار هى «الجدة»، والجميع هناك يطلقونها على كل امرأة عجوز فى العائلة سواء كانت من عائلة الأم أو الأب، ولمن لا يعرف -عوايد الصعيد برضه- فالسيدة الأم هذه هى التى تملك كل الأسرار، وخزائن الديار، وحتى وقت قريب كان لكل سيدة -ستو- عقايص -جمع عقصة- وهى الضفائر المجدولة من شعرها تضفر مفاتيح خزائن الدار- سواء كانت غنية أو فقيرة، ومن هنا يصبح «طاجن ستو» أمرا مهما وخاصا وسريا، لا ينبغى للأغراب أن يطلعوا عليه.
حتما لا أقصد أن أجركم لحنين طفولى عن حياتنا القديمة فى شوارع الصعيد الذى لم يعد موجودا الآن.. لكننى تذكرت ذلك كله وأنا أشاهد ذلك العبث والهلع فيما يسمونه بذكرى «٢٥ يناير»، ومحاولات السادة رواد برامج التوك شو خلق حدث من لا شيء لتبرير فعلة ما، أو لإلهاء الناس عما هو حقيقى وضاغط وجاد، لأن ما أراه فعلا ليس غضبا قد يتحول -لا قدر الله- إلى فعل شعبى غير محمود المخاطر، ما أراه الآن يأسا وحزنا وخوفا فى عيون المصريين، وفارق كبير جدا بين الحزن والغضب، وإن تحول الأول إلى الأخير فعلا لو لم نقدر ذلك الحزن قدره الصحيح كمثل ذلك الطبيب الذى يشخص أمراض الرئة بأنها تعب فى المسالك البولية، حتى تصير الكارثة ويصاب الجسد كله مسالك ورئة وقلب وعين بصدمة مفاجئة تذهب بصاحبها إلى «زينهم»!
هل نحن سعداء، قطعا لأ، وعلى رأى شاعرنا الراحل عمر نجم «وكان مدرس الإنجليزى فى الصعيد، راجل كشر، وكان يقول يا ولاد سعيد، يعنى هابي، وأنا مش سعيد، أنا مش هابي»!
أيوة يا خلق الله! لم يعد المصريون سعداء، أحوالنا لا تؤدى لسعادة من أى نوع، وتعالوا نبسطها، لدينا أكثر من ثلثى قوتنا العاملة، كنز مصر الحقيقي، أعمارهم فيما بين الثامنة عشرة والأربعين وجميعهم عاطلون عن العمل، والجهاز الإدارى للدولة -تراب الميري- غارق لأذنيه فى بطالة مقنعة لا تحتمل أن نضيف لها عمالة جديدة، والقطاع الخاص الذى يعول عليه سادتنا فى التنمية وفى دحر أوكار البطالة يعانى هو أصلا من بطالة، ويشكو رجاله الكبار من عثرات ضخمة، ذلك أن معظم هؤلاء لم يكونوا يملكون مالا فى الأصل ومعظم أصولهم الحالية وممتلكاتهم من البنوك وعليها «فوايد»، ولم يقم وزير تخطيط واحد منذ ٢٥ يناير الحزين، بتقديم أى رؤية حقيقية لكيفية إخراج ذلك القطاع من كبوته، جميعهم يتحدثون عن تنمية قادمة تعتمد فى أساسها على تمويل عربي، تعاملنا معه لسنوات بمبدأ نقوط الفرح، ورغم مواردنا الطبيعية الضخمة أسأنا ترويج بضاعتنا حتى صرنا ونحن نعرض استثماراتنا على أشقائنا العرب كمن يشحذ منهم، أما الأجانب فهم أدرى بأحوال المنطقة برمتها ويعرفون قبل غيرهم أن هناك من لا يريد استقرارا فى هذه البقعة من الشرق الأوسط ومراكز دراساتهم -قطعا- تنصح رجال أعمالهم وشركاتهم الكبرى بعدم ضخ أى أموال فى هذه المنطقة، هذا ما يعرفه المجنون قبل العاقل، وهؤلاء الشباب الذين ينتظرون فرصة عمل ليتزوجوا ويبنوا بيوتا يعرفون ذلك أيضا.. فمن أين يأتيهم الفرح؟!
قطعا هم يشيلون طواجن العيلة بحالها فوق رءوسهم، لكنهم قطعا ليسوا غاضبين، هم حزانى ويائسون، والفرجة على مسئولينا فى الوزارات والهيئات وأطروحاتهم التى هى من عينة ما قاله محافظ السويس الجديد الذى يرى أن أى صواريخ مقبلة من حماس وإسرائيل ستصدها الرياح.. أو هى فى أحسن الأحوال على طريقة عادل لبيب فى تنمية الصعيد!! أذكركم يا سادة بما قدمته الحكومة فى زمن سابق باسم «الجذور»، ثم باسم «مشروعك»، وها هو الصندوق الاجتماعى يقدمه من جديد فى أشكال هبلة لا تقنع «عيل من بنها» أن هناك مشروعات حقيقية، ثم الطامة الكبرى فى ١٢ مليون مصرى -فوق البيعة- هم بالأساس إما إخوة أو آباء أو أمهات لأولئك الشباب اليائس، شاءت مشيئة من دمروا أراضينا بالمبيدات المسرطنة والسامة أن تتم إصابتهم بفيروس c اللعين، وبدلا من مواجهة حقيقية للمرض، وبعد فشل ذريع فى التعامل معه لسنوات، نقوم الآن بالترويج لعلاج جديد له وبطريقة سخيفة مع د. جمال شيحة، والسيد وحيد دوس، وكلاهما شارك فى مشروع فاشل من قبل، فكيف يصدقهما المرضى الآن؟! ثم خد عندك التعليم وسنينه، والمدارس وبلاويها، والمستشفيات واللى فيها، والمواصلات واللى منها، والإعلام والهطل اللى بيشر من رموزه الجدد، كل ذلك حتما يؤدى إلى حالة من البؤس والحزن، تخلى كل واحد فينا «يشيل طاجن ستو»، واللى ما شالوش وعنده لسه شوية أمل ينتظر مثل كثيرين أن تكتمل الخارطة السياسية ببرلمان يراهن عليه الكثيرون لشد «العربة» التى تعثرت طويلا، لكن ما سبق افتتاحه، والطريقة التى تعامل بها بعض النواب وقادة الائتلافات داخله، عجلت بانصراف المتفائلين عنه وأشعرتهم أن «طريقة الحزب الوطني، راجعة راجعة»، باختصار، أنا مش سعيد، أنا مش هابي، لكننى حتما لست من الغاضبين، فالغضب الآن نوع من الترف لا يملكه المصريون.