لعل هذه المرحلة، مرحلة دخول جيش عمرو بن العاص لمصر، تحتاج إلى مزيد من الدراسة والتأمل؛ لترينا كيف تم وضع أساس صحيح ثم أفسده من أتوا لاحقًا، ولم نزل نحن نتراجع عنه حتى الآن، وربما سنواصل لسنوات قادمة.
ونبدأ:
جاء عمرو بن العاص لمصر عام ٦٣٩م، بجيش صغير جدًا يضم ٤٠٠٠ مقاتل. ولعل السؤال المثير هو: كيف نجح عمرو بهذا الجيش فى أن يحتل وطنًا كبيرًا كمصر وبه عديد من الحصون المنيعة والجيوش الرومانية؟، وعلى أي حال دخل عمرو وجنوده إلى مدينة برمون، وكان بها كثير من الكنائس والأديرة وحصن كبير واجتازوها إلى حصن بابليون، وكان الأقباط المصريون يعتقدون أن هذا الغزو هو مجرد انتقام من الرب وعقاب للرومان، الذين قال عنهم المؤرخ حنا النيقوسى «إنهم أعداء المسيح الذين دنسوا الكنيسة بعقيدة فاسدة، واقترفوا كل الجرائم والقسوة التى لم يقترف مثلها الوثنيون ولا البرابرة، واحتقروا السيد المسيح وخدامه» (حنا النيقوسى - مجلة صهيون- عام ١٩٤٨- ص ١٣٧).
وتفاوض عمرو مع قيرس (المقوقس) وتعهد عمرو للمقوقس بأن «يلتزم هو وجنوده بالبقاء فى مواقعهم لمدة أحد عشر شهرًا حتى يغادر عساكر الروم الإسكندرية حاملين متاعهم، وأموالهم وألا يعود جيش رومى بعد ذلك إليها، وذلك على أن يأخذ المسلمون مائة وخمسين جنديًا وخمسة من الأهالى رهائن عندهم حتى يتم الصلح والسلام.
وتعهد عمرو بألا يستولى على الكنائس وألا يتدخل مطلقًا فى أمور المسيحيين، وأن يتركوا اليهود مقيمين فى الإسكندرية».
وعقب فتح الإسكندرية اقترح عليه قادته أن يقسمها على أفراد جيشه المنتصر، لكن ابن العاص رفض. فلما اختلف معه القادة أرسل يستشير عمر بن الخطاب فرد عليه «لا تقسمها»، معتبرًا أن مصر كلها قد فتحت صلحًا (ألفريد بتلر- فتح العرب لمصر- ص ٣٤٣)، ويقول الطبرى «وأعطى عمرو بن العاص الأمان للأقباط على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم وبرهم وبحرهم لا يدخل عليهم شيء من ذلك ولا ينقص» (تاريخ الطبري- الجزء ٤- ص ١٠٩).
والحقيقة أن العرب أعجبوا إعجابًا شديدًا بالمصريين وحضارتهم ومدى تقدمهم، فعبدالله بن عمر قال «إن قبط مصر هم أكرم الأعاجم كلها وأسمحهم يدًا وأفضلهم عنصرًا وأقربهم رحمًا بالعرب عامة وبقريش خاصة، ومن أراد أن ينظر الفردوس أو إلى مثلها فى الدنيا فلينظر إلى أرض مصر حين يخضر زرعها وتنمو ثمارها» (ابن عبدالحكم - فتوح مصر وأخبارها- ص٥). وعندما دخل عمرو بن العاص الإسكندرية كتب إلى عمر بن الخطاب قائلًا «أما بعد فإننى فتحت مدينة لا أصف ما فيها، ففيها أربعة آلاف حمام وأربعمائة ملهى للملوك». ووصف الاصطخرى الإسكندرية قائلًا: « هى مدينة يكثر فيها المرمر الأبيض سواء فى أرضها أو بنائها، والطرق كلها تكتنفها العمدان بحيث تبدو المدينة لامعة فى الليل وفى النهار» (المقريزي- الجزء الأول ص٢٦٨). ونقرأ «وقد أذهلت الإسكندرية الكتاب العرب.. ومما لا شك فيه أنها كانت من أجمل مدن العالم القديم» (فكرى أندراوس – المسلمون والأقباط فى التاريخ - ص٧١). ومن ثم احترم العرب المصريين لأنهم كانوا جديرين بذلك.
والمثير للدهشة أن ابن العاص كتب إلى عمر بن الخطاب يسأله كيف يتعامل مع المصريين، فأمره أن يستشير البطريرك بنيامين، وأن يلتزم بما يشير به. ويجيء علي بن أبى طالب للخلافة فأرسل مالكا الأشتر واليًا على مصر، وقال «وامنح قلبك الشعور بالرحمة على الرعية والمحبة لهم واللطف بهم، فإنهم صنفان إما أخ لك فى الدين أو نظير لك فى الخلق (فهمى هويدي- مواطنون لا ذميون- ص ٨٣).
ويروى ابن الحكم أن أحد المصريين طلب إلى عمر بن الخطاب «يجب ألا يأخذ من خراج مصر أى شيء إلا بعد عمارتها» فوافقه. لكن من أتى من بعده من الخلفاء- باستثناء على بن أبى طالب- لم يفعلوا ذلك، وكان أن تذمر المصريون. ويقول أحد الباحثين الجدد «كان أغلب تذمر وسخط وثورة المصريين خلال الحكم العربى تدور حول جمع الضرائب أساسًا» (فكرى أندراوس- المرجع السابق- ص ٨٣).
لكن هناك مفارقة مهمة وهى أن أغلب المشرفين على جباية الضرائب كانوا - فى أحيان كثيرة - من الأقباط. فعديد من الأقباط كانوا يجيدون الحساب وأسلوب الجباية، بل كانت لهم نظريات محاسبية خاصة بهم توارثوها كسر من أسرارهم دون غيرهم. وبهذا ارتبطت مصالح الفئات العليا من الأقباط بمصالح الولاة العرب «فارتبطوا بهم وقدموا الهدايا العظيمة إلى بيوت الأمراء وقادة المسلمين فى الأعياد والمناسبات، وكانوا يعمرون الكنائس والأديرة» (تاريخ الجبرتي- الجزء الثاني- ص ٣٩٣).
ونتأمل العبارات السابقة.. كان الأقباط يتذمرون من قسوة النظام الضريبى وأسلوب الجباية، وكانوا فى أحيان عدة يترجمون التذمر إلى تحركات غاضبة. لكن ظلم الضرائب كان يتم على أيدى قيادات قبطية ازدادت ثراء وارتبطت مصالحها بالولاة العرب، لكنهم بفضل هذه الروابط بالحكام استطاعوا أن يحموا الكنائس وأن ينفقوا على بنائها وترميمها، بما أشعر الأقباط رغم تذمرهم الاقتصادى ببعض من الرضا الديني. وكانت الضرائب نوعين: جزية وكانت آنذاك قدرًا محددًا.. والخراج وهو الضريبة المعتادة على ما تخرجه الأرض من محاصيل. ومن ثم فقد كانت تتغير حسب مقدار الفيضان وحالة المحاصيل. وكان قادة القرى يتدارسون هذا الأمر ثم يقررون، على ضوء البحث، كم تكون أموال الخراج. فإذا جمع ما لا يزيد على ما هو مقرر على قريتهم جرى إنفاقه فى بناء الكنائس وإصلاحها أو بناء الحمامات والمبانى العامة» (جاك تاجر- أقباط ومسلمون- ص٨٢). ولعل من المهم أن نشير إلى أن الولاة العرب قد «منعوا العقاب البدنى المتمثل فى ضرب الفلاحين الذين لم يؤدوا ما هو مفروض عليهم من ضرائب، استنادًا إلى تفسير فقهى بأن الإسلام يحرم العقاب البدني» (أبوسيف يوسف- الأقباط والقومية العربية - ص٧٠). ويبقى أن أضيف أن الحكام العرب الأوائل لمصر قد أعفوا الكنائس والأديرة والرهبان من أي ضريبة إلى الحد الذى دفع بعض المؤرخين إلى القول إن الكثيرين دخلوا فى سلك الرهبنة هربًا من الضرائب.. وإن كنت لا أظن ذلك.
ويبقى بعد ذلك أن أشير إلى كتاب جديد ومهم جدًا درس هذا الموضوع دراسة جادة هو «المسلمون والأقباط فى التاريخ» للأستاذ فكرى أندراوس وهو كتاب يستحق أن يقرأ.
اقتباس: قال عبدالله بن عمر عن قبط مصر: أكرم الأعاجم كلها، وأسمحهم يدًا، وأفضلهم عنصرًا، وأقربهم رحمًا بالعرب عامة، وبقريش خاصة، ومن أراد أن ينظر الفردوس، أو إلى مثلها فى الدنيا، فلينظر إلى أرض مصر حين يخضر زرعها وتنمو ثمارها.
ونبدأ:
جاء عمرو بن العاص لمصر عام ٦٣٩م، بجيش صغير جدًا يضم ٤٠٠٠ مقاتل. ولعل السؤال المثير هو: كيف نجح عمرو بهذا الجيش فى أن يحتل وطنًا كبيرًا كمصر وبه عديد من الحصون المنيعة والجيوش الرومانية؟، وعلى أي حال دخل عمرو وجنوده إلى مدينة برمون، وكان بها كثير من الكنائس والأديرة وحصن كبير واجتازوها إلى حصن بابليون، وكان الأقباط المصريون يعتقدون أن هذا الغزو هو مجرد انتقام من الرب وعقاب للرومان، الذين قال عنهم المؤرخ حنا النيقوسى «إنهم أعداء المسيح الذين دنسوا الكنيسة بعقيدة فاسدة، واقترفوا كل الجرائم والقسوة التى لم يقترف مثلها الوثنيون ولا البرابرة، واحتقروا السيد المسيح وخدامه» (حنا النيقوسى - مجلة صهيون- عام ١٩٤٨- ص ١٣٧).
وتفاوض عمرو مع قيرس (المقوقس) وتعهد عمرو للمقوقس بأن «يلتزم هو وجنوده بالبقاء فى مواقعهم لمدة أحد عشر شهرًا حتى يغادر عساكر الروم الإسكندرية حاملين متاعهم، وأموالهم وألا يعود جيش رومى بعد ذلك إليها، وذلك على أن يأخذ المسلمون مائة وخمسين جنديًا وخمسة من الأهالى رهائن عندهم حتى يتم الصلح والسلام.
وتعهد عمرو بألا يستولى على الكنائس وألا يتدخل مطلقًا فى أمور المسيحيين، وأن يتركوا اليهود مقيمين فى الإسكندرية».
وعقب فتح الإسكندرية اقترح عليه قادته أن يقسمها على أفراد جيشه المنتصر، لكن ابن العاص رفض. فلما اختلف معه القادة أرسل يستشير عمر بن الخطاب فرد عليه «لا تقسمها»، معتبرًا أن مصر كلها قد فتحت صلحًا (ألفريد بتلر- فتح العرب لمصر- ص ٣٤٣)، ويقول الطبرى «وأعطى عمرو بن العاص الأمان للأقباط على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم وبرهم وبحرهم لا يدخل عليهم شيء من ذلك ولا ينقص» (تاريخ الطبري- الجزء ٤- ص ١٠٩).
والحقيقة أن العرب أعجبوا إعجابًا شديدًا بالمصريين وحضارتهم ومدى تقدمهم، فعبدالله بن عمر قال «إن قبط مصر هم أكرم الأعاجم كلها وأسمحهم يدًا وأفضلهم عنصرًا وأقربهم رحمًا بالعرب عامة وبقريش خاصة، ومن أراد أن ينظر الفردوس أو إلى مثلها فى الدنيا فلينظر إلى أرض مصر حين يخضر زرعها وتنمو ثمارها» (ابن عبدالحكم - فتوح مصر وأخبارها- ص٥). وعندما دخل عمرو بن العاص الإسكندرية كتب إلى عمر بن الخطاب قائلًا «أما بعد فإننى فتحت مدينة لا أصف ما فيها، ففيها أربعة آلاف حمام وأربعمائة ملهى للملوك». ووصف الاصطخرى الإسكندرية قائلًا: « هى مدينة يكثر فيها المرمر الأبيض سواء فى أرضها أو بنائها، والطرق كلها تكتنفها العمدان بحيث تبدو المدينة لامعة فى الليل وفى النهار» (المقريزي- الجزء الأول ص٢٦٨). ونقرأ «وقد أذهلت الإسكندرية الكتاب العرب.. ومما لا شك فيه أنها كانت من أجمل مدن العالم القديم» (فكرى أندراوس – المسلمون والأقباط فى التاريخ - ص٧١). ومن ثم احترم العرب المصريين لأنهم كانوا جديرين بذلك.
والمثير للدهشة أن ابن العاص كتب إلى عمر بن الخطاب يسأله كيف يتعامل مع المصريين، فأمره أن يستشير البطريرك بنيامين، وأن يلتزم بما يشير به. ويجيء علي بن أبى طالب للخلافة فأرسل مالكا الأشتر واليًا على مصر، وقال «وامنح قلبك الشعور بالرحمة على الرعية والمحبة لهم واللطف بهم، فإنهم صنفان إما أخ لك فى الدين أو نظير لك فى الخلق (فهمى هويدي- مواطنون لا ذميون- ص ٨٣).
ويروى ابن الحكم أن أحد المصريين طلب إلى عمر بن الخطاب «يجب ألا يأخذ من خراج مصر أى شيء إلا بعد عمارتها» فوافقه. لكن من أتى من بعده من الخلفاء- باستثناء على بن أبى طالب- لم يفعلوا ذلك، وكان أن تذمر المصريون. ويقول أحد الباحثين الجدد «كان أغلب تذمر وسخط وثورة المصريين خلال الحكم العربى تدور حول جمع الضرائب أساسًا» (فكرى أندراوس- المرجع السابق- ص ٨٣).
لكن هناك مفارقة مهمة وهى أن أغلب المشرفين على جباية الضرائب كانوا - فى أحيان كثيرة - من الأقباط. فعديد من الأقباط كانوا يجيدون الحساب وأسلوب الجباية، بل كانت لهم نظريات محاسبية خاصة بهم توارثوها كسر من أسرارهم دون غيرهم. وبهذا ارتبطت مصالح الفئات العليا من الأقباط بمصالح الولاة العرب «فارتبطوا بهم وقدموا الهدايا العظيمة إلى بيوت الأمراء وقادة المسلمين فى الأعياد والمناسبات، وكانوا يعمرون الكنائس والأديرة» (تاريخ الجبرتي- الجزء الثاني- ص ٣٩٣).
ونتأمل العبارات السابقة.. كان الأقباط يتذمرون من قسوة النظام الضريبى وأسلوب الجباية، وكانوا فى أحيان عدة يترجمون التذمر إلى تحركات غاضبة. لكن ظلم الضرائب كان يتم على أيدى قيادات قبطية ازدادت ثراء وارتبطت مصالحها بالولاة العرب، لكنهم بفضل هذه الروابط بالحكام استطاعوا أن يحموا الكنائس وأن ينفقوا على بنائها وترميمها، بما أشعر الأقباط رغم تذمرهم الاقتصادى ببعض من الرضا الديني. وكانت الضرائب نوعين: جزية وكانت آنذاك قدرًا محددًا.. والخراج وهو الضريبة المعتادة على ما تخرجه الأرض من محاصيل. ومن ثم فقد كانت تتغير حسب مقدار الفيضان وحالة المحاصيل. وكان قادة القرى يتدارسون هذا الأمر ثم يقررون، على ضوء البحث، كم تكون أموال الخراج. فإذا جمع ما لا يزيد على ما هو مقرر على قريتهم جرى إنفاقه فى بناء الكنائس وإصلاحها أو بناء الحمامات والمبانى العامة» (جاك تاجر- أقباط ومسلمون- ص٨٢). ولعل من المهم أن نشير إلى أن الولاة العرب قد «منعوا العقاب البدنى المتمثل فى ضرب الفلاحين الذين لم يؤدوا ما هو مفروض عليهم من ضرائب، استنادًا إلى تفسير فقهى بأن الإسلام يحرم العقاب البدني» (أبوسيف يوسف- الأقباط والقومية العربية - ص٧٠). ويبقى أن أضيف أن الحكام العرب الأوائل لمصر قد أعفوا الكنائس والأديرة والرهبان من أي ضريبة إلى الحد الذى دفع بعض المؤرخين إلى القول إن الكثيرين دخلوا فى سلك الرهبنة هربًا من الضرائب.. وإن كنت لا أظن ذلك.
ويبقى بعد ذلك أن أشير إلى كتاب جديد ومهم جدًا درس هذا الموضوع دراسة جادة هو «المسلمون والأقباط فى التاريخ» للأستاذ فكرى أندراوس وهو كتاب يستحق أن يقرأ.
اقتباس: قال عبدالله بن عمر عن قبط مصر: أكرم الأعاجم كلها، وأسمحهم يدًا، وأفضلهم عنصرًا، وأقربهم رحمًا بالعرب عامة، وبقريش خاصة، ومن أراد أن ينظر الفردوس، أو إلى مثلها فى الدنيا، فلينظر إلى أرض مصر حين يخضر زرعها وتنمو ثمارها.