تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
في إحدى ليالي الشتاء عام 1978، انعقد اجتماع سرى ضم 18 أسرة من مدينة شياوغانغ الصينية، غمسوا أصابعهم في حبر أحمر لتوقيع وثيقة التحالف غير الشرعي الهادف إلى تحطيم قواعد وقوانين المزارع الجماعية في الصين ومعارضة المبادئ الاساسية "لماو" مؤسس الصين، تأمر الثوار وقرروا تقسيم أرضهم المملوكة جماعيًا لتكون كل أسرة مسئولة عن الوفاء بحصة معينة من الإنتاج، وتوزع سكان قرية شياوغانغ كل فى قطعة الأرض الخاصة به، وحين جاء وقت الحصاد جنوا ما قدرة 153555 رطلا من الحبوب، أي ما يوازى أربعة أمثال إنتاج السنة البالغ 40 ألف رطل.
تحتفل الصين بثورة شياوغانغ باعتبارها مهد الإصلاحات الزراعية في بلاد التنين ومنطلق تحول الأمة التاريخي من اقتصاد مركزي قائم على تخطيط الحكومة الى اقتصاد السوق الحديث، ببساطة ثار الشعب على البيروقراطية، بزيادة الانتاج ورفع دخل الفرد، وفرضوا على الدولة قواعد جديدة للعمل الاقتصادي، والدولة تعاونت معهم.. لم تكابر أجهزتها التنفيذية ورضخت لرغبتهم فى التقدم ورفع مستوى معيشتهم.
فقفز إلى ذهني لماذا لا نعيد تكرار التجربة ونفكر في ثورة إنتاجية وصناعية؟ لماذا دائما ننتظر الدولة ولا نتفق مثل ثوار شياوغانغ على الإنتاج ومطالبة الحكومة بتطبيق اصلاحات نابعة من تجاربنا.. أعتقد أن هذا هو الفارق بيننا وبين الصين، نحن دائما ننتظر ما يأتي من أعلى الهرم، نجيد الانتظار ولا نجيد الابتكار وفرض الإرادة والإصرار على الاستقرار مثل الصينيين.
المثير أن الرئيس السيسي شخصيا تحدث عن محاربة البيروقراطية، وهو انفتاح كبير يدعم أي حراك مجتمعي يصب في هذا الاتجاه، لكن هل الشعب مستعد لزيادة الإنتاج ومساعدة الرئيس في كسر حدة البيروقراطية؟! هل سيتوقف نواب الشعب والنشطاء عن التلاسن والمشاحنات ويفكرون في طريقة نخرج بها من دائرة البيروقراطية الجهنمية ونساعد الدولة على زيادة رقعة الصناعة وخلق فرص جديدة للعمل والتوظيف.
في كتاب روبين ميريديث الرائع الفيل والتنين "صعود الهند و الصين" الذى ترجمة القدير شوقي جلال ضمن سلسلة عالم المعرفة ، قسم العالم خلاله الى شعوب منتجة وشعوب مستهلكة، وفى سياق العولمة أصبح السوق المفتوح هو العنوان الأهم لكل من يحاول اللحاق بركب التطور والحداثة.
وفى المقارنة بين تقدم الصين سريعا على الهند، كان السبب السياسة، فالأحزاب اليسارية الهندية تحت زعم حماية حقوق الفقراء عمدوا الى اعاقة التنمية الاقتصادية الحقيقة التي من المرجح ان تفضى الى إنشاء وظائف للفقراء، فأرجأ السياسيون بناء المطارات ورصف طرق جديدة، وقامت الحكومة برئاسة حزب المؤتمر في عام 2005 بإقرار قانون الضمان القومي لعمالة الريف وهو ما كلف الحكومة مبلغا كبيرا وهو 9.1 بليون دولار فى الوقت الذى تعانى فيه الحكومة عجزا ضخما وهو ما دفع البلاد الى ركود كبير لم ينته إلا بفتح المجال أمام الشركات الكبرى، وهو ما تم بعد هزيمة هذه الأحزاب.
ولخص روبين المعادلة فى جملة واحدة وهى "أن ما تنجزه الصين بأوامر وقرارات رسمية يتعين على الهند أن تنجزه جزئيا من خلال الإقناع".. وهو أمر يتشابه إلى حد بعيد مع ما تقوم به حكومة الرئيس السيسي التى تسعى بدأب شديد الى انجاز مشروعات بنية تحتية هائلة تخلق مئات فرص العمل في المستقبل بينما تتعالى أصوات سياسة عن وقف ذلك من أجل الفقراء ..الرئيس ينظر لما هو ابعد ، وهناك من يصر على ان نقف في مكاننا وآخرين. مصممين على جرنا إلى الخلف وإخراجنا تماما من حالة الدولة مكتملة الأركان التي وصلنا لها بصعوبات شديدة وبتضحيات الشرفاء من أبناء الجيش والشرطة والعودة الى حالة دولة اللا شيء مثلما كان الحال عقب 25 يناير.
اتذكر في 25 يناير كان الميدان هائج بعد شائعة الاخوان الممرره عبر جريدة الجارديان وقناة الجزيرة حول ثروة الرئيس مبارك الـ70 مليار، وأقنعوا الناس بأنهم سيحصلون عليها فور رحيله، حتى أن عددا كبيرا من الناس حسب نصيبه من المليارات المهربة التي لم تصل إلى هذا الرقم، ولم تعد حتى بعد وصول الإخوان إلى الحكم، وتحولت سفريات الاسترداد إلى سبوبة وزراء في حكومة مرسى الأولى.. كان منطقا غريبا في التفكير فرض على الشعب المصري المنتظر الحالم في ذلك الوقت بحياة اخرى يجد نفسه فيها بعد يناير .
بالقطع لا يفضل السياسيون والنشطاء هذا الخيار، لأن السياسة قائمة على النقاش المستمر والتفاعل الممتد وصناعة الكلام المعسول في بعض الأحيان، وفى أحيان أخرى اللعب علي مشاعر الفقراء والغضب من الدولة، لنطلب منهم المساهمة في الاستقرار، الركض جميعا في ملعب الدولة، لأن الاستقرار هو عنوان أي تقدم، خاصة مع معدلات التنفيذ العالية التي انجزتها مؤخرا الحكومة مثل مشروعات قناة السويس والمليون ونصف فدان التي بدأت بالفرافرة، وتحديث الطرق والتنمية العقارية بمشاركة القوات المسلحة، وقدرة البنك المركزي على ضبط التلاعب في الدولار ومواجهة الاستيراد العشوائي، وبالتالي التقدم مضمون لو تحلينا بالصبر والرغبة في العمل.
الاقتصاد المستقر عنوان القوة لأى دولة، وهو سر عظمة التنين الصيني والدب الروسي الذين خرجوا من الرماد مثل العنقاء، مسيرة من العمل الجاد والتضحيات استغرقت حوالى عشرين عاما كان عنوانها الاستقرار، حتى تمكنت هذه الأمم من شق طريق لها وسط عالم الرأسمالية المتوحشة، وهى تملك القدرة على مناورة أي محاولة لتعطليها، بل وتتحكم في الاقتصاد الأمريكي ،أكبر اقتصاديات العالم.