ينعقد الأحد القادم الاجتماع الأول لمجلس النواب المصرى، ويأتى الانعقاد بعد غيبة تشريعية طويلة، عانت قطاعات من المصريين فيها من مؤجلات تشريعية مهمة، ولعل إقرار القوانين التى صدرت فى غيبة البرلمان أو تعديلها سيكون الشغل الشاغل للمجلس، ولكن تبقى المطالبات العامة مطروحة منذ سنوات على الأجندة التشريعية.
ولأن المطالبات كثيرة، ولا يمكن حصرها فى مقال واحد، سأكتفى فى هذا المقال برصد محنة عمرها عشرات السنين، وهى ورطة ملاك العقارات القديمة بمصر، ونحن نعرف جميعًا كيف تضرب أزمة الإسكان بجذورها فى البيت المصرى، الحكومة تصرخ ليل نهار بسبب عدم قدرتها على الوفاء باحتياجات نسبة كبيرة من المصريين فى موضوع السكن، تعثرت التعاونيات وهربت البنوك وتراجعت عملية البناء بهدف الإيجار، بينما انتشر التمليك بأسعار فلكية لم يستفد منها سوى شريحة بسيطة جدًا من المصريين.
وبينما الحال هكذا نرى مئات الآلاف من الشقق المستأجرة بنظام الإيجار القديم، وهى إما مغلقة تلتهمها الرطوبة والعناكب وسوء الصيانة، وهو ما أسفرت عنه حوادث متكررة لانهيار تلك المبانى على رأس من بقى فيها، تلك الثروة العقارية المهملة تخشى الحكومات المتعاقبة المساس بها وذلك لأسباب متنوعة من بينها أن التعامل مع هذا القانون غير مرحب به شعبيًا، حيث مازال البعض يرى أن رد الفعل سيكون سلبيًا على الحكومة، والحقيقة هى أن حكومة غير قادرة على الحسم وتطوير الأوضاع هى حكومة فاشلة، فليس من الطبيعى أن يتم التعامى عن منشآت قائمة بالفعل، والاتجاه نحو الصحراء لبنائها بما يضاعف التكاليف فى حل أزمة الإسكان.
صاحب العقار القديم صار متهمًا جنائيًا عند سقوط العقار، فالقانون يدعوه إلى السجن، ولم يفكر ذات القانون فى تصحيح العلاقة الإيجارية بين المالك والمستأجر، فضلًا عن الإهدار الواضح لرأسمال العقار والخسارة الكبرى التى تصيب الدولة قبل أن تصيب المالك، ويتجلى ذلك فى مبانى وسط البلد بالقاهرة، فهل من المعقول أن يكون إيجار الشقة السكنية فى تلك العقارات القديمة خمسة جنيهات شهريًا، بينما تبلغ فاتورة كهرباء الشقة نحو خمسمائة جنيه، أى ارتباك هذا فى هذه السوق وتلك الثروة؟.
تخسر خزانة الدولة ضرائبها العقارية، وهو مورد مهم بعيدًا عن الجباية غير المقنعة من مجالات أخرى، وتخسر الدولة بسبب خضوعها لتراث تشريعى لم يعد صالحًا فى زمننا هذا، وتحريض الدولة على العنف بين الملاك والمستأجرين وصلت إلى حد القتل فى بعض المواقع، والدولة أيضًا تعمل على ارتباك المحاكم والقضاء بآلاف القضايا بين الملاك والمستأجرين، كل هذا النزيف المتواصل لا يراه وزراء الإسكان المشغولون بصورة وابتسامة بجوار مبنى فى الصحراء، بينما جزء من الحل واضح أمامهم، لو نظروا من شباك مكاتبهم لتمكنوا من ترتيب الأمور.
لن أتجه إلى رصد بالأرقام ليعلم نواب البرلمان الجدد فداحة الموقف، فالأرقام نصفها أكاذيب، ولكن فقط أشير إلى مواقف اجتماعية واضحة، يدفع المستأجر شهريًا للبواب عشرة أضعاف ما يدفعه للمالك، يملك المستأجر وفق قانون الإيجار القديم أكثر من شقة تمليك فى ذات المحافظة، بينما يحرص على غلق الشقة القديمة، حتى أن أحدهم بمصر الجديدة حولها إلى مزرعة للكلاب، القضية واضحة فالدولة هى الأخرى مستفيدة من ابتزاز الملاك القدامى، حيث تستأجر مئات المواقع بقروش قليلة، ربما يكون هذا واحدًا من الأسباب التى تجعل الحكومات المتعاقبة مترددة فى حسم الموقف أسوة بقانون العلاقة بين المالك والمستأجر فى الأراضى الزراعية.
ودعونا نعترف أن مصر تكاد أن تكون هى البلد الوحيد فى العالم الذي يقوم بتفعيل قانونين مختلفين لموضوع واحد، حيث قامت بتحرير العلاقة مؤخرًا فى بداية التسعينيات واستقرت الأمور لقطاع من الملاك بينما الباقون منهم مازالوا فى معاناة الصمت الحكومى.
ليس هذا فقط فقد زرت عددًا من الدول ورأيت كيفية سداد القيمة الإيجارية من المستأجر للمالك، حيث يتم تحصيلها كلها مقدمًا بموجب شيكات بنكية يتم تحصيلها فى مواعيد معلومة، وهو ما يوفر عناء المالك كمتسول شهريًا أمام باب المستأجر، وبالرغم من حضارية هذا الأسلوب إلا أن بلادنا مازالت بعيدة كل البعد عن تطوير الأدوات البنكية القادرة على ضمان حقوق الناس والموفرة للوقت والجهد، لذا أتمنى على البرلمان القادم الالتفات إلى عشرات الدراسات التى تبحث عن حلول عادلة لتلك القنبلة الموقوتة سواء تحرير العلاقة ووقف مهزلة توريث المساكن المستأجرة أو آلية تحصيل الإيجار وخلافه حفاظًا على مليارات الجنيهات التى تمثل ثروة مصر المهدرة فى العقارات القديمة.