فتح الصراع الجديد الذى فجرته دولة إيران الصفوية مع المملكة العربية السعودية، على خلفية إعدام المملكة عددًا من مواطنيها، الباب على مصراعيه أمام خريطة جديدة للمنطقة، تأخر تشكيلها، تلك الحقيقة البسيطة يجب على القيادة السياسية فى مصر والمملكة العربية السعودية أن تستوعبها جيدا، لأن أى تأخير فى استيعاب تلك الحقيقة البسيطة يدخلنا فى متاهات لا طاقة لنا بها فى المستقبل القريب.
لقد بدأ الصراع فى منطقة الشرق الأوسط يأخذ طابعا مختلفا، فى الحقيقة، منذ أن دخلت إيران الحلقة الأخيرة من «الجيم» الذى بدأته بثورة الخمينى على شاه إيران رضا بهلوى فى العام ١٩٧٩، وحتى توقيع الاتفاق مع الدول الخمس زائد واحد، ذلك الاتفاق الذى فتح شهية إيران للولوج إلى المنطقة ليس فقط كلاعب رئيسى إنما كشرطى أمريكى وحيد يحكم ويتحكم فى المنطقة كمندوب سامى عن الدول العظمى.
فإيران كانت تعلم منذ البداية أن المنطقة تتحكم بها أربعة محاور رئيسية، الأول: المحور السعودى المصرى، يسانده ويدعمه دول الخليج، وهو إجمالا يمثل المحور العربى. يقف فى مواجهته ثلاثة محاور أخرى، التركى والإسرائيلى وأخيرا الإيرانى.
تعلم إيران أيضا أنه لا بد فى العالم الجديد ذى القطب الأوحد، الذى تتزعمه أمريكا، أن يكون هناك لاعب واحد يمثل شرطى المنطقة، وتعلم أيضا أن إسرائيل غير مؤهلة لهذا الدور بحكم تكوينها ونشأتها، باعتبارها جسما غريبا عن المنطقة، وأن أنظار تركيا تتجه دائما إلى الغرب حيث الاتحاد الأوروبى وحلم الانضمام إليه، ذلك الحلم الذى تغذيه واشنطن طول الوقت، لذلك رسمت طهران استراتيجيتها منذ البداية على مواجهة محتومة مع المحور العربى، وفى القلب منه السعودية ومصر، لكن تأجيل المواجهة مع مصر بحكم الجغرافيا، واعتبارات أخرى عديدة، كان خيارا إيرانيا بامتياز، ومن ثم جاءت محاولات تحييد الدور المصرى، إبان أى مواجهة محتملة مع السعودية أو دول الخليج، ضلعا رئيسيا من أضلع الخطة الموضوعة للصراع فى المنطقة.
حاولت إيران، فى إطار سعيها للتمهيد للمواجهة مع المحور العربى، أن تضع أكثر من ملف يخص المنطقة العربية فى حوزتها تماما، بدءا بملف العراق وقبله لبنان، وحاولت وما زالت تحاول فى فلسطين عبر علاقات متميزة مع حماس، وأخيرا اليمن عبر الحوثيين.
كان الملف النووى أو التهديد به، هو الميزة النسبية لإيران فى مواجهة المحور العربى، تلك الميزة التى رجحت كفتها لدى الأوروبيين والأمريكان، ومن هنا بدأت إيران رسم استراتيجيتها نحو مواجهة محتومة مع السعودية أولا تليها مصر وبالطبع مجمل المحور العربى، تلك الاستراتيجية التى تحتاج من الدول العربية- وفى مقدمتها مصر والسعودية ودول الخليج- إلى مواجهة وإدارة عربية جماعية حكيمة.
لماذا نقول إدارة جماعية وحكيمة، لأن إيران وطوال أكثر من أربعة عشر عاما، استخدمت كل الوسائل، الشرعية وغير الشرعية، للوصول لتلك اللحظة بينما وقفنا نحن العرب مشدوهين نحارب الإرهاب تارة وتخدعنا شعارات العداء بين طهران وأمريكا تارة أخرى.
فى البداية سهلت طهران لواشنطن مهمة غزو بلدين إسلاميين هما أفغانستان والعراق. ولم تكتف بذلك بل راحت منذ بدء الضربة الجوية الأمريكية على أفغانستان فى الثانى عشر من أكتوبر عام ٢٠٠١ تستقبل عن طريق الحرس الثورى، المئات من قادة تنظيم القاعدة على أراضيها، أعدت لهم المأوى الآمن ووفرت لهم سبل الإعاشة الكاملة لاستخدامهم فيما بعد ضمن استراتيجيتها الهادفة إلى السيطرة على المنطقة وتزعمها، أرادت إيران الإمساك بالمقبضين، التعاون مع أمريكا من جهة، وشراء ولاء القاعدة، العدو اللدود لأمريكا، من جهة أخرى. استراتيجية يعجز الشيطان نفسه عن القيام بها أو فهم تركيبتها، وامتدادا لهذه السياسة راحت إيران، عبر عناصر من طالبان وأخرى من مرتزقة الاتحاد السوفيتى السابق تكيل الضربات لحلف الناتو والقوات الأمريكية فى أفغانستان، هذا فى الوقت الذى كانت تساوم فيه علنا على دم الشيعة فى العراق، عبر عمليات وحشية، مدفوعة الأجر، تقوم بها القاعدة بدعم من الحرس الثورى وبتوجيهات قادة القاعدة المقيمين فى إيران، والهدف كان واضحا، إخافة الشيعة ودفعهم للارتماء أكثر فى أحضان طهران، وهو ما حدث لاحقا حيث تحولت إيران إلى اللاعب الرئيسى والأساسى فى العراق، الأمر الذى أدى إلى ظهور داعش وأخوته ردا على سيطرة الشيعة على مقاليد السلطة فى العراق داخل وخارج الحكومة، وفى كافة الأجهزة، جيش وشرطة وأجهزة استخبارات.
سياسة الدفع إلى حافة الهاوية ثم العودة، مرة أخرى، للحوار عبر وسطاء، هى ما دأبت طهران على القيام به خلال أكثر من أربعة عشر عاما، هى عمر ما أطلقت عليه واشنطن مصطلح الحرب على الإرهاب. ساحات عديدة واستراتيجية واحدة، أفغانستان والعراق ولبنان وسوريا ثم اليمن، جميعها مثلت مسرح عمليات للاستراتيجية الإيرانية فى المنطقة طوال المرحلة السابقة، ولكن لم يدر بخلد أحد أن تمد إيران استراتيجيتها خارج تلك الساحات، وبالتحديد إلى المملكة العربية السعودية ثم مصر مستخدمة ذات الأساليب غير الشرعية التى استخدمتها فى كل من كابل وبغداد ودمشق وبيروت وعدن.
تهدف طهران من تلك الاستراتيجية الجديدة، شغل البلدين الكبيرين صاحبى الثقل العربى والدولى والإقليمى الكبير فى المنطقة، عن كافة الملفات المهمة فى الشرق الأوسط، خاصة بعد كسر موجة ما سمى بالربيع العربى، الذى لعبت أمريكا والغرب على أوتاره لتفتيت المنطقة وإخضاعها لمخططاتهما المدعومة صهيونيا.
الانكفاء على الداخل، وعزل الدولتين عن المحيط الدولى، أو بالحد الأدنى تقزيم دورهما الإقليمى على حساب عملقة الدور الإيرانى، هو ما كانت تهدف إليه الاستراتيجية الإيرانية طوال السنوات السابقة.
بالنسبة لمصر سعت إيران إلى دفعها بكل قوة لمواجهة مفتوحة مع إسرائيل عن طريق زرع بؤر الإرهاب على حدودها الشرقية، ودفع الصراع بين الفلسطينيين وإسرائيل إلى حافة الهاوية، الأمر الذى يؤدى بالضرورة إلى حرب إسرائيلية كبرى تقوم على إثرها مصر بالتدخل، لتخرج القاهرة من دائرة الفعل الإقليمى وتخلى الساحة لطهران إلى الأبد، وعندما لم تنجح طهران سواء عبر نداءات رجلها حسن نصر الله للشعب المصرى والجيش المصرى بالخروج عن أمر قياداته وكسر الحدود مع غزة وضرب إسرائيل، حاولت اللعب من خلال حركة حماس وحركاتها الصبيانية المفضوحة الهادفة إلى دفع اسرائيل للقيام بعملية اجتياح موسعة للقطاع تدفع بعشرات الآلاف من الفلسطينيين للدخول إلى سيناء، من خلال مطاردة إسرائيلية تتدخل على إثرها مصر عسكريا ليبدأ الصراع المسلح بين البلدين.
وبالنسبة للمملكة العربية السعودية لعبت إيران معها مباراة كبيرة، بدءًا من تفجيرات الخبر التى تم توجيهها من قلب إيران، وفتحت عصر الإرهاب فى السعودية، وحتى توفير المأوى والملجأ الآمن لكافة عناصر القاعدة الكبرى مقابل عمليات داخل السعودية، وانتهاء بدعم الحوثيين ودفعهم للتواجد المزعج على الحدود الجنوبية، لتحقيق الأهداف الإيرانية فى التوقيت الذى ترغب فيه إيران، وهو ما حدث فى الفترة الأخيرة، ولكنه امتد ليشمل السيطرة على باب المندب، لخنق مصر أيضا، لم تنس إيران فى خضم كل ذلك أن تدفع بأبواقها المنتشرين فى المنطقة للحديث عن عداوة طهران للشيطان الأكبر «أمريكا» وتحديها لاستراتيجيتها فى المنطقة.
وأخيرًا فإن المواجهة الإيرانية الخشنة مع المملكة العربية السعودية الآن، واستخدام حزب الله فى لبنان، والحوثيين فى اليمن، وشيعة السعودية، وربما شيعة الخليج، فيما بعد، لن ينفع إيران بشيء، بل على العكس سيزيد من عمق أزمتها، وسيوسع من دائرة المواجهة معها، ولكن يظل السؤال: أين موقع مصر، الشقيقة الكبرى للعرب، من مجمل هذا الصراع؟ هذا ما سوف نتحدث عنه غدًا بإذن الله.