أصبح اقتراب شهر يناير من كل عام خلال السنوات الخمس الماضية يصيب الدولة والنظام بحالة فزع.. فقد بدا أن مجرد اسم هذا الشهر يذكر المتربعين دائما على العرش بذكريات الخلع.. رغم أن عددًا كبيرًا من المصريين ليس لديهم الآن أى نية للقيام بثورة أو حتى احتجاجات جماعية، صحيح أن أحوال الوطن الداخلية ليست على ما يرام بسبب عوامل كثيرة تخنق الناس، وأهمها ارتفاع الأسعار الذى يطحنهم، والفقر الذى يهدد حياتهم وأمانهم، ومشاكل المياه والصحة والمرور والتعليم، ولكن المصريين رغم كل ذلك يرغبون فى الوضع المستقر الذى فقدوه خلال أعوام مضت.. وأصبحوا فى حاجة «لدولة» بغض النظر عن أزمات ومشكلات هذه الدولة التى تعصف بهم يوميًا.. كما أنهم يشعرون بارتياح حتى الآن وبأمان أيضًا للرئيس الذى يملك لديهم رصيدًا كبيرًا حتى لو أوشك هذا الرصيد على النفاد.. فهو بالنسبة لهم ما زال «المنقذ».. وهو ما يشعرنى بأن هناك من يحاول الاصطياد فى الماء العكر.. من يجاهد من أجل إحداث الوقيعة بين الرئيس المحبوب والشعب، والدليل على ذلك واضح جدًا.. فإنه لا مجال هنا من القبض على الشباب المعارضين لأنهم فقط يعبرون عن رأيهم، فهو حقهم الذى كفله لهم الدستور.
وخلال الأسبوع الماضى والأخير من شهر ديسمبر.. شنت الأجهزة الأمنية حملات اعتقال واسعة، على عدد كبير من النشطاء السياسيين والصحفيين، وصل عددهم، حسب المصادر الحقوقية، إلى أكثر من مائة شاب.. تم القبض عليهم بصورة أقرب إلى الخطف.. فى عودة غير حميدة وغير مريحة لما يسمى «زوار الفجر».. بعضهم اعترف الأمن بالقبض عليهم وطبعًا التهمة جاهزة «التحريض على الدولة» أو «التظاهر بدون تصريح».. والبعض الآخر تنفى الأجهزة الأمنية القبض عليه، وهو ما يجعل نقابة الصحفيين والقوى الحقوقية تطالب الدولة بالكشف عن مكانهم.. فقد تقدمت النقابة ببلاغ إلى النائب العام تطالب فيه بإخلاء سبيل الزميل «محمود السقا»، الصحفى المختفى منذ فجر الخميس الماضى.. وطالبت النقابة النائب العام بالتدخل للكشف عن مكانه وإطلاق سراحه فورا.. وقد يكون هذا البلاغ سببًا فى إعلان الأمن القبض عليه، ومن ثم التحقيق معه فى النيابة التى قررت حبسه ١٥ يومًا على ذمة التحقيقات التى تجرى معه بسبب الانضمام لتنظيم لم يسمع أحد به من قبل يسمى «٢٥ يناير». رغم أن الدولة وأجهزتها تعلم تمامًا أنه لا توجد ثورة فى الأفق.. وأن دعاة التظاهر يوم ٢٥ يناير منبوذون، ولم يستمع إليهم أحد، وبالتالى لن يستجيب لهم القطاع الأكبر من الشعب، أى أنه لا يوجد ما يبرر حالة الفزع والهلع التى تصدرها الأجهزة الأمنية للمصريين.. وكأنها هى نفسها من يحرضهم على الترقب ومن ثم الاستجابة والنزول الذى عزفوا عنه منذ فترة طويلة طمعًا فى الاستقرار.. إلا أن كل ما يحدث يوحى بأن الدولة تنتظر شيئًا ما حقيقيًا وقويًا.. صحيح أن لا أحد يضمن المصريين حين الغضب.. فهم يملكون صبرًا طويلًا كافيًا لاستيعاب العديد من الأزمات والمنغصات، ولكن هبتهم دائمًا قوية ومفاجئة، وهو ما أبرزه الأديب الراحل «نجيب محفوظ» فى ملحمة «الحرافيش»، والتى تعتبر إسقاطًا كبيرًا على طبيعة المصريين، الساكنة والراضية حتى إشعار آخر.. يصبرون على البلاء كثيرًا ولكن غضبهم يكون شديدًا وبطشهم قويًا.. وهم الآن فى لحظات السكون، ولكن يوجد من يدفعهم بتصرفات استفزازية للغضب.. ولا أدرى كيف لا يرى الرئيس هؤلاء؟!
لا داعى لاستدعاء غضب الشعب بمثل هذه التصرفات التى حتما تشحنه من جديد ضد النظام وأجهزة الدولة.. الدولة التى تواجه تحديات كبيرة الآن، تواجه أزمة «سد النهضة»، وخطر «الإرهاب» الذى يوجد فى سيناء على وجه الخصوص، والبلدان الممزقة التى تحيط بنا على الحدود مثل «ليبيا والسودان وغزة» وخطرها على مصر ليس ببعيد.. والمصريون جميعهم يعلمون ذلك علم اليقين، ويشعرون بما يحيط بالوطن من مخاطر، وقد يكون ذلك أحد العوامل المهمة التى تجعلهم لا يستجيبون لدعوات التظاهر ضد النظام حاليًا.. وإنما ما تفعله الأجهزة الأمنية من ملاحقات للشباب المعارض قد يأتى بنتيجة عكسية.
فقد انزعجت الدولة من مظاهرة صغيرة قوامها عشرة أفراد.. خرجوا بشكل مفاجئ فى شارع التحرير بالدقى، مكونة من شباب يحملون لافتات تقول إنهم من شباب ثورة يناير، وإنهم لا يزالون موجودين، لم يدر بهم أحد على فكرة.. ولكن تمت ملاحقتهم والقبض على بعضهم، وقيل إنهم ينتسبون إلى «حركة ٦ إبريل»، وتم القبض عليهم لأنهم تظاهروا بدون تصريح، ولم تنزعج الدولة بل أنها تكتمت على مظاهرة إخوانية خالصة، تكونت من المئات أمام «قصر القبة» وأحرقت سيارتين للشرطة، ولم نسمع عن أحد ألقى القبض عليه ممن شاركوا فيها.. مظاهرة الدقى لم تحرق ولم تعتد على أحد حتى لو اخترقت القانون، وإنما مظاهرة القبة فعلت ذلك.. ثم أنه ومنذ اندلاع مسيرة «الدقى» الصغيرة ويختفى الشباب المعارضون واحدًا تلو الآخر، وهو ما يشير إلى مزيد من القلق والتوتر فى صفوف الشباب والمواطنين بشكل عام بسبب القبضة الأمنية التى تشعل الغضب من جديد. عجزت عن فهم دولة تخشى عشرة أفراد لم يحرقوا ولم يكسروا ولم يعتدوا على أحد.. وتتكتم على من خرج أمام أحد قصور الحكم وأحرق سيارات الشرطة.. دولة تسجن «إسلام بحيرى» الذى يصحح المفاهيم الخاطئة فى الإسلام، والتى جلبت علينا كل هذا الخراب والدمار والذبح فى خطوة هى عار على مصر.. وتسكت عن شيوخ الفتنة الذين يحرمون تهنئة المسلمين للأقباط، ويعتبرونها من الفواحش، ويحللون الحرق والذبح استنادًا إلى أحاديث نبوية وهمية لم ينطق بها الرسول ولم يأت بها القرآن.