ترى هل يمكن للمرء أن يعزل نفسه عن مجريات السياسة؟ هل يمكن للمرء أن ينجز علمًا أو عملًا ينفع به الناس مغلقًا على نفسه الأبواب؟ هل يمكن لمجتمع أن يتقدم بمواطنين يولون ظهورهم للشأن العام؟ وهل يمكن لنظام سياسى أن يستمر حيًا فى عالم اليوم، وهو يحفز علماءه على الانصراف إلى تخصصاتهم دون الاهتمام بالشأن العام؟
صحيح أن ثمة متخصصين يرون أن الاشتغال بالسياسة، يتعارض مع نزاهة رجل العلم، ويستنزف جهدًا ينبغى أن ينصرف إلى الممارسة المهنية. ولا يرون فرقًا بين الاشتغال بالسياسة، والانشغال بقضاياها، وأنه إذا كان مقبولًا من رجل العلم ألا ينخرط فى العمل السياسى الحزبى، فإن الانشغال بالسياسة يكاد يكون فرض عين على المشتغلين بالعلم، خاصة على المتخصصين فى العلوم الاجتماعية.
وقد شهدت أروقة رابطة علم النفس الأمريكية التى تضم أضخم تجمع مهنى فى العالم للأخصائيين النفسيين منذ سنوات صخبًا امتد إلى مختلف تجمعات الأخصائيين النفسيين فى العالم، ومنها تلك الرابطة الصغيرة التى أشرف بعضويتها، رابطة الأخصائيين النفسيين الراديكاليين.
بدأت القصة حين نشرت جماعة «أطباء من أجل حقوق الإنسان» فى مايو ٢٠٠٥ كتيبًا بعنوان «فلتحطموهم» تضمن شرحًا لإقدام المتخصصين فى الطب النفسى وعلم النفس، على توظيف تخصصهم فى تحطيم شخصيات الأسرى فى معسكرات الاعتقال الأمريكية، وأن الأساليب النفسية التى اتبعت فى هذا الصدد، شملت الحرمان الحسى، والحرمان من النوم، والعرى القسرى، واستخدام الكلاب المتوحشة المدربة لإثارة الرعب، والإذلال الجنسى والحضارى.
وسرعان ما اتخذت الروابط المهنية الطبية، ومنها رابطة الأطباء النفسيين الأمريكية قرارًا واضحًا يحرم «أية مشاركة مباشرة لأعضائها فى أية عمليات استجواب عسكرية أو مدنية لأفراد محتجزين فى المعتقلات سواء كانت تلك المعتقلات فى الولايات المتحدة أو خارجها، وتشمل تلك المشاركة مجرد التواجد فى غرف التحقيق، أو توجيه أو اقتراح الأسئلة، أو تقديم النصائح لسلطات التحقيق بشأن استخدام وسائل فنية محددة».
وفى مقابل ذلك كان موقف رابطة علم النفس الأمريكية متخاذلًا، فلم تضع قيودًا على مشاركة أعضائها فى تلك الاستجوابات، مكتفية بالتأكيد على «ضرورة الالتزام بما تتطلب ممارساتهم المهنية من التزامات أخلاقية»، وسرعان ما اتخذت وزارة الدفاع الأمريكية قرارًا فى يونيو ٢٠٠٦ يقضى بأفضلية الاستعانة بالأخصائيين النفسيين عوضًا عن الأطباء النفسيين الذين أحجموا عن العمل كمستشارين لطواقم الاستجواب فى تلك المعسكرات.
وبدأت الصيحات تتعالى للاعتراض على مشروعية موقف رابطة علم النفس الأمريكية، وانهالت البرقيات تطالب جيرالد كوشير الرئيس الحالى للرابطة باتخاذ موقف أكثر حسمًا ووضوحًا، وأصر كوشير فى رسالة جوابية له اختار أن يكون عنوانها «إنكم مخطئون خطأ مميتًا» على ضرورة أداء الأخصائيين النفسيين لواجباتهم فى مساندة أهداف الأمن القومى للولايات المتحدة، مؤكدًا أن «المشاركة فى الاستجواب تختلف عن المشاركة فى التعذيب» وأنها لا تتعارض مع مبدأ «عدم التسبب فى الإيذاء» الذى ينص عليه الميثاق الأخلاقى للرابطة.
وبدأت الدعوة للتوقيع على عريضة احتجاج، وأشار المحتجون الذين وقعوا على العريضة، إلى أن اللجنة التى شكلها كوشير لمراجعة الميثاق الأخلاقى للرابطة، تضم ستة أعضاء من أعضائها العشرة، لهم علاقات بالمؤسسة العسكرية، وأن أربعة منهم قد تعاملوا بالفعل مع أسرى جوانتانامو أو أبو غريب، أو قدموا خدماتهم فى أفغانستان، وأنه لمن المفارقات الملفتة إقدام ثلاثة من أسرى جوانتانامو على الانتحار بعد مضى ثلاثة أيام على رسالة كوشير التى دافع فيها عن أخلاقيات المشاركة فى الاستجوابات. إلى هذا الحد بلغ انشغال علماء النفس بقضايا السياسة.
وعادت بى الذاكرة إلى خبرة شخصية بعيدة فى مجال علاقة العلم بالسياسة، وذلك حين تلقيت من الرئيس السادات خطابًا يشيد فيه بموضوع بحثى الذى حصلت به على درجة الدكتوراه عام ١٩٧٣ عن «الشخصية الإسرائيلية»، مشيرًا إلى حاجة الوطن لمثل تلك النوعية من البحوث، ودفعنى حماس الشباب آنذاك إلى إرسال صورة من ذلك الخطاب إلى رؤساء أقسام علم النفس، لشحذ الهمم نحو مزيد من الدراسات لصراعنا مع إسرائيل ولكن رسالتى تلك لم تترك أثرًا يذكر، حيث لم يتعدَ عدد الرسائل المتعلقة بالأبعاد النفسية لذلك الصراع فى جميع الجامعات المصرية عددًا محدودًا من الرسائل.
ترى هل مازال هناك أمل فى أن نشجع أبناءنا من الطلاب والمهنيين على الانشغال بقضايا السياسة؟
أظن أن البداية ينبغى أن تأتى من قمة الهرم، بأن تتضمن قوانين التعليم عامة وقانون تنظيم الجامعات خاصة نصًا لا لبس فيه يشجع الطلاب والأساتذة على الانشغال بالقضايا السياسية، والتعبير عن ذلك الانشغال عبر الصحف العامة والبحوث العلمية وصحف الحائط، بل ويجرم إعاقة مثل ذلك التعبير طالما التزم بحدود الآداب العامة.
أعرف أنه قد يكون حلمًا، ولكن تحقيق الأحلام ليس على الله ببعيد.
صحيح أن ثمة متخصصين يرون أن الاشتغال بالسياسة، يتعارض مع نزاهة رجل العلم، ويستنزف جهدًا ينبغى أن ينصرف إلى الممارسة المهنية. ولا يرون فرقًا بين الاشتغال بالسياسة، والانشغال بقضاياها، وأنه إذا كان مقبولًا من رجل العلم ألا ينخرط فى العمل السياسى الحزبى، فإن الانشغال بالسياسة يكاد يكون فرض عين على المشتغلين بالعلم، خاصة على المتخصصين فى العلوم الاجتماعية.
وقد شهدت أروقة رابطة علم النفس الأمريكية التى تضم أضخم تجمع مهنى فى العالم للأخصائيين النفسيين منذ سنوات صخبًا امتد إلى مختلف تجمعات الأخصائيين النفسيين فى العالم، ومنها تلك الرابطة الصغيرة التى أشرف بعضويتها، رابطة الأخصائيين النفسيين الراديكاليين.
بدأت القصة حين نشرت جماعة «أطباء من أجل حقوق الإنسان» فى مايو ٢٠٠٥ كتيبًا بعنوان «فلتحطموهم» تضمن شرحًا لإقدام المتخصصين فى الطب النفسى وعلم النفس، على توظيف تخصصهم فى تحطيم شخصيات الأسرى فى معسكرات الاعتقال الأمريكية، وأن الأساليب النفسية التى اتبعت فى هذا الصدد، شملت الحرمان الحسى، والحرمان من النوم، والعرى القسرى، واستخدام الكلاب المتوحشة المدربة لإثارة الرعب، والإذلال الجنسى والحضارى.
وسرعان ما اتخذت الروابط المهنية الطبية، ومنها رابطة الأطباء النفسيين الأمريكية قرارًا واضحًا يحرم «أية مشاركة مباشرة لأعضائها فى أية عمليات استجواب عسكرية أو مدنية لأفراد محتجزين فى المعتقلات سواء كانت تلك المعتقلات فى الولايات المتحدة أو خارجها، وتشمل تلك المشاركة مجرد التواجد فى غرف التحقيق، أو توجيه أو اقتراح الأسئلة، أو تقديم النصائح لسلطات التحقيق بشأن استخدام وسائل فنية محددة».
وفى مقابل ذلك كان موقف رابطة علم النفس الأمريكية متخاذلًا، فلم تضع قيودًا على مشاركة أعضائها فى تلك الاستجوابات، مكتفية بالتأكيد على «ضرورة الالتزام بما تتطلب ممارساتهم المهنية من التزامات أخلاقية»، وسرعان ما اتخذت وزارة الدفاع الأمريكية قرارًا فى يونيو ٢٠٠٦ يقضى بأفضلية الاستعانة بالأخصائيين النفسيين عوضًا عن الأطباء النفسيين الذين أحجموا عن العمل كمستشارين لطواقم الاستجواب فى تلك المعسكرات.
وبدأت الصيحات تتعالى للاعتراض على مشروعية موقف رابطة علم النفس الأمريكية، وانهالت البرقيات تطالب جيرالد كوشير الرئيس الحالى للرابطة باتخاذ موقف أكثر حسمًا ووضوحًا، وأصر كوشير فى رسالة جوابية له اختار أن يكون عنوانها «إنكم مخطئون خطأ مميتًا» على ضرورة أداء الأخصائيين النفسيين لواجباتهم فى مساندة أهداف الأمن القومى للولايات المتحدة، مؤكدًا أن «المشاركة فى الاستجواب تختلف عن المشاركة فى التعذيب» وأنها لا تتعارض مع مبدأ «عدم التسبب فى الإيذاء» الذى ينص عليه الميثاق الأخلاقى للرابطة.
وبدأت الدعوة للتوقيع على عريضة احتجاج، وأشار المحتجون الذين وقعوا على العريضة، إلى أن اللجنة التى شكلها كوشير لمراجعة الميثاق الأخلاقى للرابطة، تضم ستة أعضاء من أعضائها العشرة، لهم علاقات بالمؤسسة العسكرية، وأن أربعة منهم قد تعاملوا بالفعل مع أسرى جوانتانامو أو أبو غريب، أو قدموا خدماتهم فى أفغانستان، وأنه لمن المفارقات الملفتة إقدام ثلاثة من أسرى جوانتانامو على الانتحار بعد مضى ثلاثة أيام على رسالة كوشير التى دافع فيها عن أخلاقيات المشاركة فى الاستجوابات. إلى هذا الحد بلغ انشغال علماء النفس بقضايا السياسة.
وعادت بى الذاكرة إلى خبرة شخصية بعيدة فى مجال علاقة العلم بالسياسة، وذلك حين تلقيت من الرئيس السادات خطابًا يشيد فيه بموضوع بحثى الذى حصلت به على درجة الدكتوراه عام ١٩٧٣ عن «الشخصية الإسرائيلية»، مشيرًا إلى حاجة الوطن لمثل تلك النوعية من البحوث، ودفعنى حماس الشباب آنذاك إلى إرسال صورة من ذلك الخطاب إلى رؤساء أقسام علم النفس، لشحذ الهمم نحو مزيد من الدراسات لصراعنا مع إسرائيل ولكن رسالتى تلك لم تترك أثرًا يذكر، حيث لم يتعدَ عدد الرسائل المتعلقة بالأبعاد النفسية لذلك الصراع فى جميع الجامعات المصرية عددًا محدودًا من الرسائل.
ترى هل مازال هناك أمل فى أن نشجع أبناءنا من الطلاب والمهنيين على الانشغال بقضايا السياسة؟
أظن أن البداية ينبغى أن تأتى من قمة الهرم، بأن تتضمن قوانين التعليم عامة وقانون تنظيم الجامعات خاصة نصًا لا لبس فيه يشجع الطلاب والأساتذة على الانشغال بالقضايا السياسية، والتعبير عن ذلك الانشغال عبر الصحف العامة والبحوث العلمية وصحف الحائط، بل ويجرم إعاقة مثل ذلك التعبير طالما التزم بحدود الآداب العامة.
أعرف أنه قد يكون حلمًا، ولكن تحقيق الأحلام ليس على الله ببعيد.