بعض المتحذلقين وأشباه المثقفين، يطلون علينا عبر نافذة الفضائيات ليتجشأ أحدهم فى وجوهنا، ويقول بمنتهى الثقة: «أنا لا أؤمن بنظرية المؤامرة»، ولو أن هذا الجاهل قرأ صفحة واحدة من التاريخ الذى كتبه المتآمرون أنفسهم، لأدرك أنها حقيقة واقعة وأن هناك من يتربص لتلك الأمة ويريدها أن تكون ذليلة وتابعة لإرادته، وقد بدا ذلك واضحًا فى الحملات التى رفعت شعار الصليب كغطاء دينى لها، وهى فى الحقيقة حملات استعمارية، وبالمناسبة فإن كلمة استعمار بمنظورهم تعنى إعمار الأرض، فهم جاءوا إلينا لإعمار بلادنا ووضعها على طريق التقدم، أى أنهم جاءوا بهدف نبيل، إذن فمعنى الاستعمار عندهم يختلف عن معناه الذى ترسخ فى وجداننا، وإذا كان أحد الذين نصفهم بالنخبة المثقفة يؤمن بأنه لا توجد مؤامرة، فما رده على ما كتبه نائب الرئيس الأمريكى جو بايدن فى «واشنطن بوست» منذ عدة أسابيع، بأنه يرى أن الحل الأفضل للأزمة فى العراق، هو إقامة إقليم فى الوسط للسنة وآخر فى الجنوب للشيعة وثالث فى الشمال للأكراد، وما رد السيد المثقف الجهبذ على تقسيم السودان إلى دولتين تحت رعاية دولية وبإصرار أمريكى أوروبى، وحين وقف الرئيس الأسبق مبارك أمام هذا المخطط، واعترض عليه كتبوا شهادة وفاته، وبماذا يرد ناكر المؤامرة على الخريطة التى نشرتها «النيويورك تايمز» للشرق الأوسط الجديد، وكيف قسموا خمس دول إلى ١٤ دولة جديدة لضمان السلام والاستقرار فى المنطقة، ولمَ العجب وقد حدث ذلك فعلًا فى عام ١٩١٦ حين جلس السيد «سايكس» مع السيد «بيكو» ووضعا خريطة العالم العربى فى حال هزيمة الأتراك فى الحرب العالمية الأولى، وهذا ما كنا قد انتهينا إليه فى المقال السابق، حيث قرر الإنجليز دعم الشريف حسين الذى نادى بعودة الخلافة الإسلامية للعرب، بعدما انتزعها الأتراك لسنوات طويلة، وهذا لن يتم إلا باستقلال العرب عن الحكم العثمانى، وبالفعل اشتعلت الثورة العربية فى يونيو ١٩١٦، وانتقلت فى سرعة البرق من بلد لآخر، تمامًا مثلما حدث فى ديسمبر ٢٠١٠ حين اشتعلت فى تونس ثم تبعتها مصر وليبيا، واليمن، وسوريا، وكأن الإنجليز يساعدون الشريف حسين فى اتصالاته بالجمعيات السرية، التى انتشرت فى مختلف البلدان العربية، والتى كانت تدعو للتحرر من الاحتلال العثمانى، وتتبنى أفكارًا قومية وعرقية، وفى أكتوبر ١٩١٦ أعلنت بريطانيا اعترافها بالشريف حسين ملكًا على الحجاز، فتحرك على رأس جيش كبير من القبائل العربية، لتحرير بقية البلاد من العثمانيين، ونجح هذا الجيش فى طرد القوات التركية، وإجبارها على الانسحاب من عدة مدن عربية، وأثناء ذلك دعت فرنسا لعقد مؤتمر عاجل، لدعم مسلحى القبائل العربية فى طلبهم المشروع فى تحرير بلادهم من الاحتلال العثمانى، واستنكر المؤتمر الأعمال الوحشية التى يقوم بها حاكم دمشق التابع لتركيا، والذى أراد تكوين جيش لمحاربة الشريف حسين، وإخماد الثورة والدفاع عن الخلافة العثمانية، وفى سبيل تحقيق ذلك أجبر الشعب السورى على التجنيد، وقام بقتل وتعذيب من يرفض، وظن الشريف حسين أنه أصبح خليفة المسلمين حقًا لا سيما بعد أن منحه الإنجليز لقب ملك العرب، ولكنه فوجئ بالروس، وقد فضحوا الاتفاق السرى الذى عقده الإنجليزى «سايكس» مع الفرنسى «بيكو»، فأصيب بخيبة أمل، وفهم أخيرًا أنه كان مجرد أداة فى يد الإنجليز، وأنهم استخدموه لمحاربة الأتراك داخل الأراضى العربية، لكنهم لن يجعلوه خليفة للمسلمين كما وعدوه، بل قرروا تفتيت هذه المساحة الشاسعة إلى دول عديدة، احتاروا فى تسمية بعضها فأجلوا اختيار الاسم إلى حين انتهاء الحرب العالمية المشتعلة، والتى انتهت فى نوفمبر ١٩١٨ بعدما فقدت البشرية أكثر من تسعة ملايين شخص، وانهارت الدولة العثمانية تمامًا بعد هزيمتها فى حرب لا ناقة لها فيها ولا جمل، ولكنها الكبرياء التي دفعتها للدخول فى حلف مع الألمان، بينما كانت الدول التابعة لها تتساقط تباعًا، وأثناء الحرب نجحت القوات الإنجليزية فى احتلال القدس عام ١٩١٧، ووقف الجنرال «إدموند ألنبي» يردد أخيرًا استعدنا القدس، إذن فقد ضاعت القدس فى عهد الخلافة التى يتباكى عليها البعض، وفى عهدها أيضًا صرنا أضحوكة العالم، ونشبت الثورة العربية برعاية إنجليزية، وأعلنت الدولة العثمانية رسميًا استسلامها فى سبتمبر ١٩١٨، ووقعت على هدنة «مودروس» وبعدها على مبادئ ويلسن التى تقضى بحق البلاد فى الاستقلال، أى أنها تنازلت طواعية عن فكرة الخلافة.
آراء حرة
الشرق الأوسط الجديد ـ "3"
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق