الأحد 22 ديسمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

يسري الجندي.. نظرة على مسيرة مبدع عملاق

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
فى الخامس من فبراير عام ١٩٤٢، فى مدينة دمياط، ولد كاتبنا الكبير يسرى الجندى، أى أنه فى ٥ فبراير المقبل يتم عامه الثالث والسبعين، أمد الله تعالى فى عمره ومتعه بالصحة والعافية، وبالقدرة على إنجاز الكثير من مشروعاته الإبداعية والفكرية، ومواصلة مسيرته الحافلة.
بدأ كاتبنا هذه المسيرة، متصدرًا فرسان جيله فى إبداع النصوص المسرحية، وإلى جانب استمراره فى فتح آفاق أرحب وأحدث فى مسرحنا العربى، لم يلبث أن غدا ضمن الكوكبة الذهبية فى كتابة نصوص الدراما التليفزيونية وإرساء دعائمها، فضلًا عن إسهامات فى السينما على قلتها بالغة التميز (خمسة أفلام)، مصاحبًا ذلك دائمًا دور فكرى وتنويرى من خلال الدراسات والمقالات، بدءًا من بحثه المبكر الرائد فى عام ١٩٦٩ «نحو تراجيديا معاصرة.. ملاحظات»، والذى صدر لاحقًا بين دفتى كتاب، إلى مقالاته المنتظمة حاليًا فى جريدة «الأخبار».
وقد تنوعت أعمال يسرى الجندى تنوعًا ملفتًا بالغ الخصوبة، عبر وسائط الدراما المسرحية والتليفزيونية والسينمائية، ما بين الواقعى الاجتماعى، والتاريخى السياسى، والخيال العلمى والفانتازيا، مع تميز خاص متفرد فى استلهام الموروث والسير الشعبية برؤية معاصرة متعمقة، وبمعالجات وصيغ درامية تتسم بالتجديد والأسلوب الأخاذ والروح الشعرية الجلية.
وبإمكاننا اعتبار جيل الجندى فى الكتابة المسرحية، الموجة الثانية من أعظم موجتين فى هذا المجال فى مسرحنا خلال النصف الثانى من القرن العشرين وحتى الآن.. فإذا كانت الموجة الأولى التى ولدت فى الخمسينيات مع ميلاد ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢، وسطعت وأدهشت فى الستينيات، هى موجة نعمان عاشور وألفريد فرج وسعد الدين وهبة ويوسف إدريس الذين سرعان ما لحق بهم محمود دياب وميخائيل رومان، فإن الموجة التالية التى بزغت فى النصف الثانى من الستينيات، وتألقت نضجًا وعطاء قيمًا جميلًا ابتداء من السبعينيات، هى موجة يسرى الجندى ورأفت الدويرى ومحفوظ عبدالرحمن وأبوالعلا السلامونى.
بل كانت أعمال الجندى المسرحية فى السبعينيات، عقد الجدب والتراجع على كل المستويات، منارات مدهشة وسط عتمة حالكة وتفاقم وترديات.. وفى البدء كانت مسرحيته الخلابة المبكرة (١٩٦٨): «ماحدث لليهودى التائه مع المسيح المنتظر»، التى عرضت مرات بأكثر من إخراج.. (شاهدتها فى إحداها كتحفة مسرحية بحق بعنوان «اليهودى التائه» بإخراج المسرحى الكبير عباس أحمد)، ومثلت رؤية ومعالجة الجندى فى هذا النص الراقى واضح الشعرية، القضية الفلسطينية والصراع العربى الصهيونى كقضية تتصدر المسائل والشواغل فى مشروعه الفكرى الإبداعى.. أما (منارات الجندي)، التى تفردت مسرحيًا وسط حلكة السبعينيات، فقد شاركه فيها المسرحى الكبير سمير العصفورى، فشاهدنا للثنائى المسرحى الاستثنائى (الجندي/العصفوري) مسرحيات تتصدرها: «يا عنترة»، و«أبوزيد الهلالى سلامة»، وهما من روائع المسرح المصرى والعربى فى كل تاريخه، وكان الضلع الثالث معهما فى الإبداع: كوكبة مسرح الطليعة، وفى مقدمتها الفنانة الراحلة سهير طه حسين، التى كانت بارعة فى الأداء التمثيلى والأداء الغنائى.
فى نفس الوقت بدأ الجندى يجسد معالم مشروعه الإبداعى عبر دراما التليفزيون.. منذ المسلسل السياسى الراقى «الرائق» واقعية وخيالًا «نهاية العالم ليست غداً»، مرورًا بمسلسله السياسى التاريخى «جمهورية زفتى» إخراج إسماعيل عبدالحافظ (وعندى بلا تردد هو أحد أحسن عشرة أعمال درامية فى التليفزيون المصري).. كما يعود الجندى لاستلهام تراثنا الإنسانى والقومى بإبداعات جديدة متألقة، فى مسلسلات ذائعة الصيت مثل: «على الزيبق»، و«جحا المصري»، و«السيرة الهلالية»، و«رابعة تعود».. بقدر ما يقدم تحليله وتأمله العميق فى تاريخنا وأحقابه وشخصياته عبر تجسيد درامى وجمالى مرهف، منذ مسلسله الرائع عن عبدالله النديم (للمخرجة الرائدة علوية زكي)، إلى مسلسل «الطارق»، إلى عمله الكبير الدقيق «ناصر» (المسلسل الحدث بكل معنى الكلمة)، إلى مسلسله عن «هدى شعراوي» و«سقوط الخلافة» (عن السلطان عبدالحميد الثانى وتهاوى الإمبراطورية العثمانية).. فضلًا عن مسلسلاته الاجتماعية الواقعية التى لها قيمتها الجلية.
ومن المعروف أن الجندى فرغ من كتابة نصوص مهمة لكن إنتاجها لا يزال يتعثر، وما أن يلوح أو يبدأ الإقدام عليها حتى لا يلبث أن يعود كل شىء فيتوقف، تحت حجة وزعم عدم توفر المقدرة الإنتاجية للدولة وتليفزيونها!.. ومن ذلك مسلسله الضخم «همس الجذور» عن مجمل التاريخ الحديث لمصر سياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا، ومسلسله الكبير عن (شجر الدر)، فضلًا عن سيناريو الفيلم السينمائى عن بطلنا الشهيد إبراهيم الرفاعى عن رواية «الرفاعي» لجمال الغيطانى.. وغير ذلك!!
إذا كان يسرى الجندى قد تصدر كوكبة إحدى أعظم موجتين فى مسرحنا الحديث، فإنه كذلك فى كتابة الدراما التليفزيونية أحد أضلاع المربع الذهبى (مع أسامة أنور عكاشة، ومحفوظ عبدالرحمن، ومحسن زايد).. ولسوف ننتظر من كاتبنا (رغم كل العراقيل).. المزيد من إبداعات تضىء وتجدد، ترسى دعائم وتؤكد معالم، تنشر قيمًا ومثلًا، وخيرًا وجمالًا، إعلاء لقيمة الإنسان، وإيمانًا بإرادة جموعه ومستقبله، فلقد ظل الإنسان العربى وتقدمه وانتصاره على كل المعيقات والرجعيات، هو محور وقضية كل إبداعات هذا الإنسان الراقى النبيل.. والكاتب العظيم «يسرى الجندي».