بعيدًا عن السياسة والبرلمان والأحزاب، وقريبًا من الناس والميادين وأحلام التغيير، فى قلب الموهبة يسكن، محتضنًا مشروعه الفنى الذى عاش له عشرات السنين، هو الفنان والموسيقى المصرى الكبير أشرف السركى.
أدركت فجأة الأسبوع الماضى، أن أشرف اقترب عمره من السبعين، وعلى الرغم من ذلك ما زالت أعماله الموسيقية كلها يتم تداولها بمحبة المحبين العارفين لقيمته، وباجتهاد تسجيلات شخصية فى الندوات والسهرات، ولأشرف السركى عشرات إن لم يكن مئات الألحان القادرة على نقل الأغنية إلى مستوى مختلف عما هى عليه، لا أقول هذا لمعرفتى الوثيقة به، ولكن هذا الكلام يقوله أيضًا قامات سامقة فى الموسيقى والغناء.
أشرف السركى يقترب من السبعين من عمره، ويعيش الآن مغتربًا فى صقيع لندن، لم يحن هامته لمنتج ولم يهادن سلطة ولم ينافق ناقدًا، ولم يوطد علاقته مع المسئولين عن صفحات الفن بالصحف، عاش ليبدع فقط، عاش ليحلم بواقع جديد للإنسانية كلها، وبينما هو مستمتع بذلك، وفى غاية الرضا عن نفسه، نعانى نحن محبيه ومريديه من عدم إنتاج أعماله بتقنيات التسجيل اللائقة.
أتوجه مباشرة إلى الوزير المثقف حلمى النمنم، ولا أعرف ما هو المتاح بين يديه لإنقاذ كنوز أشرف السركى من الضياع قبل فوات الأوان، فالسركى ينتمى فى الموسيقى إلى مدرسة الكلاسيكية المعاصرة، وهى مدرسة لا ينتمى لها إلا من امتلك وعيًا وفهمًا وروحًا نادرة ومختلفة، لذلك لن يكون السركى نجمًا للكليبات المحترقة، ولكنه سيكون المؤسس والأب لمدرسة تحتاجها الأذن العربية.
تخرج السركى فى المعهد العالى للموسيقى، منتصف ستينيات القرن الماضى، وكان الأول على دفعته، وفى حضرة الشاعر الكبير فؤاد حداد بدأت ألحان أشرف من كلماته واحتضنه حداد متفائلًا بالمستقبل، قدم من كلمات حداد أكثر من أوبريت تمثل فى تقديرى علامات مضيئة فى الغناء والموسيقى، من بينها أوبريت سيد درويش ومصطفى كامل ومحمد عبيد وأعتبر الأخير ملحمة بمعنى الكلمة، لأصالتها وتجددها بسبب عبقرية الكلمة واللحن، بل أعتبرها نشيد ثورة ٣٠ يونيو بلا منازع، تلك الملحمة التى خلدت العسكرية المصرية مجسدة فى شخص بطل الثورة العرابية محمد عبيد، الذى واجه الإنجليز فى كفر الدوار والتل الكبير، واستشهد وصار الآن حسب كلمات «حداد» فى الجنة عرض السيف مع ذراعه. لا أكتب مقالى هذا من باب راحة الضمير لمشروع أشرف السركى الموسيقى، ولكن أكتبه من باب الإيمان بقضية حقيقية لن أتركها إلا وقد وصلت أعمال السركى للأذن العربية، لدينا ماسبيرو العملاق، ويمكننا أن نسأله عن نشيد العلم من كلمات صلاح جاهين وألحان أشرف السركى وإخراج عفاف طبالة، العلم الذى أنتجه التليفزيون المصرى عام ١٩٨٩ وتم تسجيله وتصويره بشكل لائق.. ما السبب فى حبس النشيد داخل ثلاجاتكم بينما الناس فى أمس الحاجة إليه، يرجع البعض سبب عدم إذاعته إلى عدم ظهور حسنى مبارك فى الأغنية إلا فى لقطة لمدة ٣ ثوانٍ، وهو يرفع العلم على طابا.
وغير نشيد العلم لدينا «زفة نجيب محفوظ»، التى كتبها المقتدر عمر الصاوى، ولحنها السركى، وغناها مجموعة من الأصوات يتقدمهم شفيق جلال وعزة بلبع وأحمد إبراهيم، وغير الزفة اسألوا عن أغنية «زلزلينا» التى كتبها ببراعة ماجد يوسف، لدينا أكثر من هذا يمكن أن نكتب كتابًا كاملًا عما واجهه أشرف السركى فى مشروعه الموسيقى، وما ينضح به منتجنا الثقافى، لذا أعلق الأمر كأمانة فى رقبة الوزير المحترم حلمى النمنم لثقتى فيه، ولا أتوجه لماسبيرو لمعرفتى بتعقيدات أولوياته، ولأن مشروعنا ثقافى قبل أن يكون إعلاميًا، أقول للنمنم راجيًا «عد لنا بـ«السركى» من أوروبا، مصر فى أمس الحاجة إليه، لنتحرك الآن قبل غد، وحتى لا نندم فيما بعد عندما لا يفيد الندم».