نهاية السبعينيات، فى نادى القصة، الكائن فى حى جاردن سيتى، كنت أصغر الحاضرين، وقد ذهبت بصحبة الأديب، وبائع الكتب، محمد جابر غريب، الذى كان يعاملنى كابن، أو أخ أصغر له.
بعد الاستماع إلى بعض القصص القصيرة على لسان مؤلفيها ومناقشتهم اختتمت السهرة بالأديب عبدالعال الحمامصى، الذى قرأ واحدة من قصصه الحديثة بعنوان «هذا الصوت.. وآخرون».
عقب الانتهاء من قراءة القصة دوى التصفيق مصحوبًا بالضحكات، وبدأت مناقشة ساخنة حول مضمون القصة الذى يتناول «تردى الأوضاع السياسية والثقافية والفنية»، والتى تجسدت فى صوت أحمد عدوية، المطرب الأكثر شعبية، والأكثر تعرضًا للهجوم من قبل المثقفين والطبقة الوسطى فى السبعينيات، والممنوع رسميًا من الغناء فى التليفزيون أو الإذاعة.
بالتبعية لم أحب أحمد عدوية، طالما أن العامة يحبونه والمثقفين والمتعلمين ينتقدونه، وكنت أقدس إذاعة أم كلثوم التى تبدأ فى الخامسة مساء كل يوم بأغنية لأم كلثوم، يعقبها عبدالوهاب، ثم فريد الأطرش، نجاة، عبدالحليم، فايزة أحمد، محمد فوزى، ليلى مراد.. إلخ، حتى تنتهى فى العاشرة بأغنية أخرى لأم كلثوم.. وأحب بشكل خاص الأغانى المكتوبة باللغة العربية الفصحى، ولا أميل إلى الغناء الشعبى.. من عدوية وحتى عبدالمطلب.
مع دخول الثمانينيات ودخولى سن المراهقة تغيرت أشياء كثيرة فى العالم من حولى، وفى شخصيتى بالتبعية. تعرفت على الأغانى الأجنبية التى غزت مصر بكثافة وقتها، مع ظهور موجة «الديسكو»، ومجيء فيلمى «حمى ليلة السبت» و«جريس» اللذين لعب بطولتهما جون ترافولتا، الذى تحول إلى مثل ونموذج يحتذى لجيلنا من المراهقين.
كانت الثمانينيات العصر الذهبى لشرائط الكاسيت، ومن خلالها تعرفت على نجوم الغناء الغربيين، من إلفيس بريسلى وفريق البيتلز إلى مايكل جاكسون ومادونا مرورًا بفرق الروك أند رول الكبرى مثل «بينك فلويد» و«سوبر ترامب» و«وينجز» و«رولنج ستون»، وفرق البوب مثل «أبا» و«مودرن توكنج».. وعشرات المغنين والفرق الأخرى.
بجانب شرائط الكاسيت ظهرت بعض المطبوعات التى تنشر نصوص الأغانى الأجنبية الشهيرة، ومن أفضلها كتاب غير دورى بعنوان «هيت باريد»، يضم نصوص عشرات الأغانى الحديثة، رأيته بالصدفة على رصيف مكتبة مدبولى بوسط البلد، وصدر منه حوالى خمسة أو ستة أعداد، احتفظت بها لسنوات طويلة ولا أعلم أين ولا كيف ضاعت منى، وكنت أطالعها لسببين، الأول هو فهم كلمات الأغانى وحفظها، والثانى هو تقوية لغتى الإنجليزية بشكل عام. الثمانينيات شهدت أيضًا العصر الذهبى للفرق الغنائية فى مصر، التى بدأت بأسماء وألحان أجنبية مثل «بوتى شا» و«الجيتس»، ثم تحولت إلى أسماء مصرية مثل «المصريين» و«الأصدقاء».. فى تجربة مميزة ومختلفة فى تاريخ الغناء المصرى، ولكن للأسف مبتورة وغير ممتدة أو متكررة.
مع نشأة العديد من شركات إنتاج الكاسيت، واستديوهات التسجيل الحديثة، ومنافذ البيع الممتدة، حدثت طفرة فى عالم الغناء الشعبى و«المستقل»، ومع ظهور الفيديو كاسيت حدثت طفرة مماثلة فى مجال السينما، أطلق عليها «سينما المقاولات» ارتبطت أيضا بأوصاف «الهبوط» و«الانحدار».
مع ذلك، فكل من طفرتى الغناء والسينما كانتا انعكاسا وثمرة للتغيرات الاجتماعية والسياسية والتى تمثلت فى انقلاب الهرم الطبقى، وانحدار الطبقة الوسطى التى ظهرت بعد «ثورة يوليو ١٩٥٢»، وصعود طبقة الحرفيين والتجار عقب الانفتاح الاقتصادى، والنزوح شبه الجماعى للعمل فى دول الخليج. ورغم التحفظات الكثيرة على مستوى هذه الأعمال الفنية «الشعبية» عندما ننظر إليها من منظور جمالى نقدى أو طبقى بورجوازى، إلا أنها أعمال ثرية للغاية من ناحية «التحليل الثقافى».
ماذا يعنى مصطلح «التحليل الثقافى»؟ هو مدرسة أو مذهب فى قراءة المنتجات الثقافية، من أدب وموسيقى وأفلام شعبية تجارية، يهدف إلى تحليل المجتمع سياسيًا وثقافيًا ونفسيًا.
أعتقد أن جذور التحليل الثقافى تكمن فى كتابات الناقد الروسى الكبير، ميخائيل باختين، الذى توفى منتصف السبعينيات، خاصة فى دراسته الرائدة حول الفنان الشعبى الفرنسى، رابليه، التى تحمل عنوان «إبداع فرانسوا رابليه والثقافة الهزلية الشعبية فى العصور الوسطى وعصر النهضة»، والتى يحلل فيها أعمال «رابليه» الشعبية من منظور ماركسى باعتبارها نتاجًا ثوريًا مقاومًا ضد الطبقتين الأرستقراطية، العليا، والبورجوازية، الوسطى، اللتين تسيطران وتقمعان وتستغلان الطبقة الشعبية، الدنيا.
أهم ما فى هذه الدراسة، بالنسبة لموضوعنا، هو النظر إلى ملامح «الهبوط الفنى»، بما فى ذلك تفكك البناء وانعدام المنطقية والفجاجة والابتذال، باعتبارها عناصر مقاومة تخريبية للعالم المثالى، الأخلاقى، الوهمى، الذى توحى به فلسفة وثقافة وفنون الطبقة الحاكمة.
فيما يتعلق بالوضع المصرى وأغانى عدوية تحديدًا يمكن الاطلاع على هذا التحليل الثقافى لهما من خلال الدراسة الأكاديمية الرائعة التى كتبها الباحث الأمريكى، والتر أرمبروست، رئيس قسم الدراسات العربية فى جامعة أكسفورد بعنوان «الثقافة الجماهيرية والحداثة فى مصر»، والتى صدرت ترجمتها عن المركز القومى للترجمة، وأعيد نشرها ضمن مكتبة الأسرة منذ عامين.
يقوم «أرمبروست» بعمل مسح ثقافى ميدانى لقاهرة التسعينيات، وسط أحيائها الشعبية وحواريها، مستمعًا إلى أغانيها ومشاهدًا لأفلامها، القديمة والحديثة، مقارنًا بين أعمال مثل فيلمى «الوردة البيضاء» لمحمد عبدالوهاب والمخرج محمد كريم و«العزيمة» للمخرج كمال سليم، راصدًا صعود طبقة المتعلمين والموظفين، ومتتبعًا لمسيرتها حتى سقوطها، وصعود دولة أحمد عدوية وأفلام المقاولات، التى يمكن أن نجد امتدادها الحالى فى أغانى المهرجانات وأفلام السبكى.
الآن، عندما أرى الكثير من المثقفين والمتعلمين يبدون إعجابهم الشديد بأحمد عدوية، وغيره من الفنانين «الشعبيين»، أتذكر اليوم الذى ذهبت فيه إلى نادى القصة واستمعت إلى قصة «هذا الصوت.. وآخرون»، وكم الرفض والنفور اللذين أبداهما الحاضرون ضد عدوية.. كما أتذكر السنوات الطويلة التى كان ينظر فيها إلى أغانيه مثلما ننظر إلى أغانى المهرجانات الآن.
.. وللحديث بقية.