لا يمكن أن نبدأ حديثا عن 25 يناير وما حدث فى مصر وعدد من الدول العربية بعد ذلك دون أن نتطرق إلى الحديث عن الأجندة الغربية تجاه الشرق الأوسط، والحديث هنا ليس حديثًا ثانويًا يمكن تجاهله أو تناوله بمعزل عما حدث ويحدث فى المنطقة منذ سنوات، خاصة تلك التحولات والأحداث التى رسمت خرائط ما عرف بـ«الربيع العربى»، فأمريكا ودول الغرب تعلن صراحة عن رغبتها فى مزيد من التفتيت للأمة العربية فى ضوء اعتبارين، الأول: يتعلق بإدراكها لقدرات الجيوش العربية وقوتها، ومدى الخطر الذى يحيط بإسرائيل منذ حرب أكتوبر 1973 والموقف العربى الموحد إبانها.. خاصة قوة الجيش المصرى التى ظهرت بوضوح أثناء الحرب، والثانى: هو قيام الدول العربية بتوظيف سلاح النفط للضغط على أمريكا فى موقفها تجاه إسرائيل، الأمر الذى مثل دافعًا مهمًا للسيطرة على تلك الثروات.
بعد برنارد لويس جاء روبرت رايت ليقوم بتطوير مخطط برنارد لويس، ذلك المخطط الذى قام بنشره فى صحيفة «نيويورك تايمز» تحت عنوان «كيف يمكن لخمس دول أن تصبح ١٤ دولة؟»، استند رايت فى مخططه إلى قراءة الشكل الظاهرى للصراع فى العراق وسوريا، حيث يُقدَّم الصراع بصفته طائفيًّا إثنيًّا له جذوره التاريخية، ويسير ضمن صيرورة تاريخية تفرض نفسها لـ«تصحيح أخطاء وقعت فى الماضى»، حسبما ادَّعى سابقًا برنارد لويس، وروّج له على امتداد عشرات السنين.
فقد تم تقسيم سوريا التى تعانى حربًا أهلية مدمرة إلى ثلاث دويلات: الأولى علوية، والثانية كردستانية، والثالثة سُنية، فيما تظهر الخارطة تقسيم السعودية إلى خمس دويلات، هى السعودية الشمالية، والشرقية، والغربية، والجنوبية، فضلا عن الدولة الوهابية، أما اليمن، فقد تم تقسيمه إلى دولتين، وليبيا إلى ثلاث دويلات، وذلك بسبب النزاعات القبلية، ولم تشر الخارطة إلى لبنان والسودان وهى دول تتصدر قائمة الدول المتنازعة على أسس طائفية وعرقية ودينية وسياسية وقبلية.
الشرق الأوسط الجديد
فى هذا السياق، يخطئ مَن يظن أن فكرة مشروع النظام الشرق أوسطى حديثة، بل هى قديمة، وترجع إلى بدايات القرن العشرين، ولقد بذل الغرب، ممثَّلًا بصورة خاصة فى الدول الثلاث «أمريكا وبريطانيا وفرنسا»، جهودًا حثيثة لإشاعة مصطلح الشرق الأوسط، وتوضيح حدوده، ورسم مستقبله، وكانت الجيوش العربية، والنفط وإسرائيل، مثَّلث الاهتمام بهذه المنطقة الحيوية من العالم.
يتفق معظم المؤرخين على أن مصطلح «الشرق الأوسط» ظهر أول ما ظهر فى كتابات المؤرخ العسكرى الأميركى ألفريد ثاييت ماهان فى مقال نشره فى أيلول ١٩٢٠، حيث أطلقه على المنطقة الواقعة بين الهند والجزيرة العربية، واستخدمه بعده فالنتين جيرول مراسل جريدة «التايمز» اللندنية فى طهران.
بعد شيوع وانتشار استخدام مصطلح الشرق الأوسط فإن مصطلح الشرق الأدنى الأكثر شيوعًا آنذاك، الذى كان يقصد به الدولة العثمانية وممتلكاتها فى آسيا بدأ يتلاشى، وخلال الحرب العالمية الأولى «١٩١٤- ١٩١٨» ازداد استخدام مصطلح الشرق الأوسط من قِبل العسكريين والاستراتيجيين البريطانيين، كما تركز هذا المصطلح فى وثائق التسويات الدولية التى أعقبت تلك الحرب، خصوصا تلك التى عُقدت فى سيفر وسان ريمو وباريس بين عامى ١٩١٩ و١٩٢٠ وبموجبها تم اقتسام المشرق العربى وثرواته النفطية بين بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية.
وبصرف النظر عن التسمية، فإن مصطلحَى الشرق الأدنى والشرق الأوسط يعكسان وجهة نظر غربية ترى أن أوروبا، هى مركز العالم، وأن الأقاليم الأخرى تتجمع حوله، فى مقابل إدراك الغرب منذ زمن بعيد، أن الموقع الجغرافى الذى يتمتع به العالم العربى، ووفرة إمكاناته الاقتصادية الهائلة وثرواته النفطية ووزنه الحضارى ووجود الإسلام فيه كطاقة روحية، يشكل خطرًا على مصالحه ويحد من أطماعه، لذلك بذل جهودًا كبيرة لتحجيم العالم العربى واحتواء أقطاره وإبقاء عناصر التجزئة فيه والعمل على تفتيته وجعله هدفًا مستمرًا لمخططاته ساعده على ذلك انهيار الاتحاد السوفييتى، وانتهاء الحرب الباردة وتشتيت القوى العربية واحتلال العراق، فتم تقديم مشروع الشرق الأوسط الجديد لأول مرة من قبل (التجمع من أجل السلام) وهى هيئة غير حكومية تشكلت فى القدس سنة ١٩٦٨، بهدف تشجيع المبادرات الرامية لإزالة أسباب الصراع العربى الإسرائيلى وتضم الهيئة كتابًا ومفكرين ومثقفين وصحفيين، ويقول بيريز إنه طرح المشروع سنة ١٩٨٥ وسماه مشروع «مارشال الشرق الأوسط».
ويعد مؤتمر مدريد الذى عقد سنة ١٩٩١ بمثابة عملية انطلاق لترسيم «خريطة جديدة لمنطقة الشرق الأوسط»، حيث طرحت فكرة السوق الشرق أوسطية بمبادرة إسرائيلية وأمريكية مع الجماعة الأوروبية والبنك الدولى، ويعد شيمون بيريز رئيس الوزراء الإسرائيلى الأسبق من أشهر الداعين لهذه الفكرة، فقد ركز عليها فى خطابه الذى ألقاه فى المؤتمر السنوى لحزبه «حزب العمل» فى سبتمبر ١٩٩١ وتحدث عن التكامل بين ثلاثة عناصر متوفرة فى الشرق الأوسط وهى: وفرة موارد المياه التركية، وسعة السوق الاستهلاكية المصرية ومقدرة التكنولوجيا الإسرائيلية، وخلص إلى أن اتحاد هذه العوامل الثلاثة مموَّلة بفوائض نفط الخليج العربى، تستطيع أن تحقق لإسرائيل ما تريد، ويجعلها جزءًا من المشروع الاقتصادى الشرق أوسطى الجديد، فيتعزز عندئذ أمنها ويتحقق رخاؤها، ثم عاد فوسَّع الفكرة من خلال كتابه «الشرق الأوسط الجديد».
وتقوم أعمدة المشروع على استغلال الاهتراء السياسى والاقتصادى والاجتماعى فى البلاد العربية لإحداث أكبر قدر من الفوضى الدينية والمذهبية والعرقية بهدف تسهيل وشرعنة إعادة تشكيل المنطقة العربية بجغرافيات وهويات جديدة، وتستهدف فكرة المشروع ثلاثة اهتمامات رئيسية:
- الوصول النهائى إلى قبول إسرائيل كمركب عضوى ثقافى واقتصادى وسياسى كامل الحقوق فى الجغرافيا والمستقبل العربى.
- إضعاف الكيانات العربية الكبيرة نسبيًّا وتجزئتها بحيث تحتاج كل واحدة منها على حدة إلى الحماية الأمريكية والإسرائيلية.
- استغلال الحقائق المروعة فى تقارير التنمية العربية عن وضع المرأة وحقوق الأقليات وغياب حريات الرأى والعبادة وضعف مخرجات التنمية لإحداث الفوضى قبل إعادة التركيب.
فالشرق الأوسط إذن، وحسب تعبير مارتن آندك مستشار الأمن القومى الأسبق، أحد منظِّرى السياسة الأمريكية هو «فى حالة توازن دقيق بين مستقبلين بديلين الأول يتمثل فى سيطرة المتطرفين المرتدين عباءة الإسلام أو القومية على المنطقة، والثانى مستقبل تحقق فيه إسرائيل وجيرانها العرب مصالحة تاريخية تمهد للتعايش السلمى والتنمية الاقتصادية من أجل تأمين التدفق الحر لنفط الشرق الأوسط».
.. وإذا كانت فكرة النظام الشرق أوسطى الجديد وفق مفهوم «آندك» تعنى إعادة هيكلة هذه المنطقة على بِنًى جديدة أو مفهوم بيريز الذى يقصد به إقامة «نظام التفاعلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية يرتكز على اعتبارات التقارب الجغرافى والتعاون المشترك على مختلف الأصعدة «فإنها تهدف فى الوقت نفسه إلى مواجهة مشروع العرب الحضارى المستقل، وإضعاف المرتكزات السياسية والاجتماعية والثقافية للنظام العربى، وذلك من خلال إلغاء المقاطعة لإسرائيل وتدعيم قدراتها السياسية والعسكرية وفتح الأبواب أمام نموذج الغرب الرأسمالى بأفكاره وقيمه وإعادة ترتيب التوازنات الإقليمية فى المنطقة وبما يضمن دمج إسرائيل فيها وإنهاء الصراع العربى الإسرائيلى وإقامة علاقات «عربية - إسرائيلية» فى إطار مشروعات شرق أوسطية مشتركة.
ففى مقال لمجلة القوات المسلحة الأمريكية، تم الحديث بوضوح وتفصيل كبير عن خطط التقسيم، بل إنها ألحقت بمقالها خريطة للدويلات الجديدة التى سوف تظهر فى العالم العربى، التى أشارت إلى أنه يجب على الغرب أن يدُرك بأن العراق وسوريا ولبنان وباقى الدول العربية مخلوقات اصطناعية، وأن القومية العربية هى الخطر الحقيقى على الغرب، والحل يكمنُ فى إقامة دويلات جديدة طائفية وعشائرية.
وأضافت المجلة: إن إسرائيل لا يمكنها العيش مع جيرانها ولهذا جاء الفصل بينها وبين جيرانها العرب، وهو ما يتوافق مع المشاريع الصهيونية، فشيمون بيريز حددّ فى كتابه «الشرق الأوسط الجديد» خريطة الشرق الأوسط بأنها تمتد من حدود مصر الغربية حتى حدود باكستان الشرقية ومن تركيا وجمهوريات آسيا الوسطى الإسلامية شمالًا حتى المحيط الهندى وشمال السودان جنوبًا، وهى منطقة تجمع دولًا عربية وإسلامية وليس فيها خارج هاتين الدائرتين «العروبة والإسلام» سوى إسرائيل، ولا ننسى هنا مقولة بيريز المشهورة «لقد جرَّب العرب قيادة مصر للمنطقة لمدة نصف قرن، فليجربوا قيادة إسرائيل إذن».
ويعرض التقرير المنشور فى المجلة خرائط لمنطقة الشرق الأوسط بشكلها الحالى، وخرائط للشكل الذى يتم العمل على تحقيقه، ويعتمد التقرير فى تسويغ هذا المخطط على عدد من الحجج ومنها أن الحدود الحالية هى حدود رسمتها كل من بريطانيا وفرنسا بشكل عشوائى، ثم إن قوس الحدود الأكثر تشابكًا وفوضوية فى العالم يكمن فى إفريقيا والشرق الأوسط، وأن هذه الحدود تعمل على إثارة الحروب فى المنطقة، ولذلك يجب تغييرها وإعادة رسمها لإعطاء الأقليات المذهبية أو القومية والإثنية حقوقها المسلوبة، فضلًا عن أن الحدود المرسومة للدول ليست ثابتة على الإطلاق والعديد من الحدود من الكونغو إلى القوقاز مرورًا بكوسوفو تتغير الآن، ومن هنا، فإنه لا يجب التجاوب مع الحجة القائلة إن هذه الحدود لهذه الدول لا يجب تغييرها، لأنها تعبّر عن واقع موجود منذ آلاف السنين، وأن المحافظة عليها تتطلب تحمل ضريبة المشكلات التى تحصل فيها، كما أن حدود الشرق الأوسط تسببّ خللًا وظيفيًّا داخل الدولة نفسها، وبين الدول بعضها البعض، خصوصا من خلال الممارسات ضد الأقليات القومية والدينية والإثنية، أو بسبب التطرف الدينى أو القومى والمذهبى، ولذلك يجب إنهاء هذا الأمر.
الشرق الأوسط الكبير
البداية كانت مع قيام اللجنة الأمريكية للأمن القومى، وهى لجنة استشارية فيدرالية تُعرف باسم لجنة «هارت رودمان»، بوضع تقرير كبير فى فبراير ٢٠٠١ بعنوان «البيئة الأمنية الكونية الجديدة فى الربع الأول من القرن الحادى والعشرين»، وقد تضمن التقرير عددًا من الدراسات والأبحاث عن المناطق المختلفة فى العالم ومن بينها ما يسميه التقرير الوثيقة «الشرق الأوسط الكبير».
هذا التقرير يُعرّف منطقة الشرق الأوسط الكبير بأنها «تلك المنطقة التى تضم كلا من العالم العربى، إسرائيل، تركيا، آسيا الوسطى، القوقاز، ومنطقة شبه القارة الهندية»، وتمثل هذه المنطقة، كما جاء فى التقرير «أكبر مستودع للطاقة فى العالم»، كما أنها «ساحة نزاع بين عدة قوى طموحة تسعى لفرض الهيمنة على المنطقة»، «وللولايات المتحدة حلفاء فاعلون فى هذه المنطقة، كما أن لها مصالح ذات أهمية، إلى جانب ذلك فإن المنطقة تشهد تطورًا واسع النطاق لأسلحة الدمار الشامل، ولم يكن من قبيل الصدفة، أن شهدت هذه المنطقة حربًا كبيرة للولايات المتحدة وذلك فى سنة ١٩٩١، فضلًا عن أنها المنطقة الوحيدة فى العالم التى تتجه الولايات المتحدة إليها لتوسيع نطاق انتشارها العسكرى وذلك منذ نهاية الحرب الباردة».
وأكد واضعو التقرير أن منطقة الشرق الأوسط الكبير، منطقة شديدة الأهمية، ومصدر متاعب فى الوقت نفسه، خصوصا أن نظم الحكم فى المنطقة، باستثناء كل من إسرائيل والهند وتركيا، هى نظم استبدادية، وتفتقر المنطقة إلى نظم ديمقراطية مؤسسية، بالإضافة إلى ذلك فإن هذه المنطقة تعد موطنًا للاتجاهات الإسلامية المتطرفة سياسيا، والتى إن لم تكن تشكل مصدرًا للتهديد لمجتمعاتها وجيرانها فهى على الأقل مصدر مهم للقلق وعدم الاستقرار.
وكانت صحيفة «واشنطن بوست» أول من أفصح عن هذه المبادرة الأمريكية الجديدة حين ذكرت فى ٩ فبراير ٢٠٠٤ أن إدارة الرئيس الأمريكى جورج بوش تعمل على صياغة مبادرة طموحة لتعزيز ونشر الديمقراطية فى (الشرق الأوسط الكبير) وذلك بإعادة تكييف وتعديل نموذج اُسْتُعْمِلَ من قبل فى الضغط من أجل نشر الحريات فى الاتحاد السوفييتى وأوروبا الشرقية.
وقد بدأ بالفعل كبار المسئولين فى البيت الأبيض ووزارة الخارجية محادثات مع حلفاء أوروبيين رئيسيين حول رسم مخطط شامل لعرضه على مؤتمرات القمة التى عقدت فى ٢٠٠٤ لكل من مجموعة الدول الثمانى الكبرى، ومنظمة حلف شمال الأطلسى والاتحاد الأوروبى.
وفى ٢٨ فبراير ٢٠٠٤ جدد الرئيس الأمريكى السابق جورج بوش خلال اجتماعه مع المستشار الألمانى السابق جيرهارد شرودر فى البيت الأبيض دعوته لدول الشرق الأوسط لإجراء إصلاحات سياسية، واعتبر بوش أن فترة ما بعد إسقاط طالبان فى أفغانستان نموذج للتغيير السياسى، وأعرب عن اعتقاده بإمكانية تكرار التجربة فى دول أخرى بإقامة مؤسسات ديمقراطية، وقال بوش إن هذه التجربة تشكل ميراثًا يجب العمل من خلالها لتغيير ما سماه عادات العنف والخوف والإحباط التى غرست بذور الإرهاب وأدت إلى نموه فى الشرق الأوسط، على حد زعمه.. وأنه من الضرورى إقامة المؤسسات الديمقراطية التى تستجيب لتطلعات الشعوب.
ويعتبر مشروع الشرق الأوسط الكبير أن المنطقة تقف على مفترق طرق، وأن المطلوب هو السير فى طريق الإصلاح الذى استجاب له عدد من الزعماء، وأن بلدان مجموعة الثمانى الصناعية أيدت هذا الخيار، منوهًا بـالشراكة الأورومتوسطية، ومبادرة الشراكة بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط، وجهود إعادة الإعمار المتعددة الأطراف فى أفغانستان والعراق.
قبلها قدمت مؤسسة «راند» فى العاشر من يوليو ٢٠٠٢ تقريرًا وضعه لوران مورافيتش المحلل الاستراتيجى فيها، إلى هيئة السياسة الدفاعية فى وزارة الدفاع الأمريكية، ويتكون التقرير من أربع وعشرين نقطة، خصصت لدراسة الوضع فى المنطقة العربية، ويخلص التقرير إلى اقتراح ما يصفه بأنه «الاستراتيجية الكبرى للشرق الأوسط».
يرسم التقرير صورة للأوضاع فى العالم العربى تدل بما لا يدع مجالًا للشك على أن الولايات المتحدة الأمريكية عازمة على إجراء تغييرات جوهرية فى هذه البلدان ويظهر التقرير صعوبة إجراء التغييرات ويقدم «صورة قاتمة جدًّا بل هى موصدة الأبواب على أى نوع من التغيير ليس فقط الآن ولكن أيضا فى المستقبل، إذا لم تتولَّ الولايات المتحدة الأمريكية بنفسها، ومن خلال أساليب وطرق مختلفة، مسئولية العمل على إحداث هذا التغيير».
ومن أهم الاستراتيجيات التى كُلف بها هذا الحلف ملف الشرق الأوسط وقد كان اجتماع قادة الحلف فى إسطنبول عام ٢٠٠٤، تاريخيًّا حيث تحددت فيه مهام الحلف فى الشرق الأوسط استنادًا إلى أن ما يجرى فيه ويؤثر على الأمن الأوروبى بشكل مباشر واتخذت العديد من القرارات المهمة فى هذه القمة التى أطلق عليها «قمة من أجل الشرق الأوسط» منها: اعتماد حدود الشرق الأوسط الأوسع والذى لا يقتصر على المفهوم السابق المحدد إبان الحرب العالمية الثانية ولكن امتد ليشمل جميع الدول الإسلامية أو التى بها أغلبية إسلامية لتبدأ من جنوب شرق آسيا حتى أواسط إفريقيا وتضم جميع الدول العربية وإيران فى نطاقها وفى هذا المجال اتخذت العديد من القرارات شملت خمسة محاور رئيسية هى:
القرارات الملعونة
- تبنِّى مشروع الشرق الأوسط الموسع وإشراف الحلف على الشق الأمنى للمبادرة.
- تشكيل قوة الردع السريع كآلية عسكرية يستخدمها الحلف فى تنفيذ المهام الطارئة خصوصا خارج حدود الحلف.
- تطوير الحوار الأطلنطى المتوسط ليصبح شراكة من أجل السلام.
-دعم قوات حفظ السلام التابعة للحلف فى أفغانستان لكى يمكنها من توسيع مجال عملها فى أفغانستان.
- تدريب قوات الأمن والقوات المسلحة فى بعض دول الشرق الأوسط التى تطلب ذلك.
والحقيقة أنه على امتداد جهود الحلف فى السنوات السابقة فإنه لم يخرج عن الأهداف الأمريكية والاستراتيجيات المخططة للسيطرة على منطقة الشرق الأوسط التى تعتبر قلب العالم والسيطرة عليها تمثل هدفًا استراتيجيًّا، انطلاقًا من نظرية جون سبيكمان فى «الجيوبوليتكس» أن من يسيطر على قلب العالم يمكنه السيطرة على دوائر العالم المختلفة.
ولتنفيذ ذلك اتخذت دوائر صنع القرار الأمريكى على عاتقها اتباع طريقين: الأول، استخدام القوة العسكرية والغزو والاحتلال كما حدث فى أفغانستان والعراق وهى وسيلة تضمن إسقاط النظم المارقة بالقوة المسلحة وتولية نظم مروَّضة ومبرمجة وفق ما تراه واشنطن.
أما الطريق الثانى، وهو التهديد بالتغيير على غرار ما حدث فى السنوات الثلاث الماضية. ونرى أن الطريق الأول قد نجح فى إحداث التغيير وفق النهج الأمريكى ولكن يظل مرتبطًا واقعيًّا باستمرار الاحتلال العسكرى أو استخدام القوة، وفشل الطريق الثانى لأن النظام الرسمى العربى لم يتخلَّ مطلقًا عن ورقة الشارع العربى بغض النظر عن اتفاقه أو اختلافه مع ما تريده الجماهير الرافضة للسياسات الأمريكية والتى تراها السبب الحقيقى وراء زلزال سبتمبر الذى عصف بأركان القوة الأمريكية الاقتصادية والعسكرية متمثلة فى برجى مركز التجارة العالمى ومقر وزارة الدفاع «البنتاجون».
وعليه ارتأت الإدارة الأمريكية أن أفضل وسيلة هى الضرب على وتر الإصلاح الشامل السياسى والاقتصادى والاجتماعى فى مجتمعات يعتقد الأمريكيون أنها فى حالة ظمأ ديمقراطى ولكن الإصلاح فى الدول العربية بعينها، فقط، قد يحافظ على الهوية المرتبطة بهم وهى «العروبة والإسلام» التى تعتبر العامل الذى يثير القلق دائما لهم، ولذلك كان من الضرورى توسيع دائرة التغيير بضم دول غير عربية وغير إسلامية للخروج من المأزق القومى بالحديث عن تطوير لشكل إقليمى جديد يضم الدول العربية الاثنتين والعشرين بالإضافة إلى ثلاث دول أخرى كل منها لها خصوصية فى حال اندماجها فى الشرق الأوسط الكبير.
الدولة الأولى تركيا باعتبارها النموذج المسلم ديانةً والعلمانى سياسةً، ثم إسرائيل باعتبارها نموذجًا غير مسلم يعبر عن لسان حال السياسة الأمريكية وتعد الحليف الاستراتيجى لواشنطن بالمنطقة، وبالتالى، فإن وجودها داخل منظومة الشرق الأوسط الكبير سيقطع الطريق على أى محاولات عربية لتعريب وأسلمة هذه المنظومة، خصوصا أن العرب هم المقصودون من التغيير وليست تركيا أو إسرائيل، أما الدولة الثالثة فهى إيران التى تمثل الصداع الدائم لأى إدارة أمريكية منذ عام ١٩٧٩ فى المنطقة.
وقد عملت على الترويج للمشروع من خلال طرح أفكار ذات جاذبية مثل التنمية الشاملة والرفاهة الاقتصادية وتوفير فرص عمل للعاطلين وتطبيق الديمقراطية والتحرر والانعتاق من حالات القهر والقمع السياسى وتشجيع منظمات المجتمع المدنى غير الحكومية على التمرد بشكل أو بآخر على النظم السياسية القائمة تحت دعاوى الحرية وفق المنظور الأمريكى، ومن خلال رصد اعتمادات مالية طائلة من ميزانية البيت الأبيض لدعم أنشطة هذه المنظمات التى يفترض فى هذه الحالة أنها لن تعارض أى توجهات أمريكية وحشدت الإدارة الأمريكية أبواق دعايتها.