تفيض لغتنا السياسية بتعبيرات مثل «التسلل الثقافى» و«تهديد ثقافتنا الوطنية» و«الأفكار الهدامة» و«الغزو الفكري» إلى آخره.
ولا شك أن مصطلحات التسلل والتهديد والهدم والغزو، ترتبط بالاستنفار للقتال؛ وقد يدفع الحماس بالمرء دفاعًا عن كيانه الوطنى الثقافى الدينى إلى الخلط بين القتال المسلح والقتال الفكري؛ فيندفع صوب إفناء أعدائه الفكريين ومحوهم ماديًا من الوجود.
كثيرة هى الأفكار التى تستفز وتهدد مشاعرنا الشخصية أو الوطنية أو الدينية أو الإنسانية، وكثيرًا ما ينتابنا الغضب ونتمنى لو لم تكن تلك الأفكار قد وجدت طريقها للتعبير أصلًا، ومن الطبيعى أن تتجه غضبتنا إلى من يحملون تلك الأفكار المستفزة بحثًا عن سبيل للقضاء على ذلك التهديد، ونكون آنذاك حيال أحد سبيلين:
الأول: أن نقوم بتفنيد هذه الأفكار ومناقشة أصحابها علنًا، سعيًا لإقناعهم وتحصينًا لأنفسنا ولغيرنا من غوايتهم؛ وهو الأمر الذى يتطلب أن نكون أولًا على يقين من تماسك وصحة أفكارنا، وعلى يقين كذلك من قدرتنا على الدفاع عنها، فضلًا عن اكتسابنا مهارات الحوار اللازمة، وكلها أمور تحتاج جهدًا فى دراسة أفكارنا ودراسة أفكار الآخرين أيضًا، والقبول بعرضهم العلنى لأفكارهم.
الثاني: أن نوفر على أنفسنا كل ذلك العناء، ونختصر الطريق بإقامة سدود التحريم والتجريم للحيلولة دون انتشار تلك الأفكار، متخلصين من ضجيج الحوار وتجاوزاته؛ فإذا ما اكتشفنا استحالة ذلك؛ فلنحاول التخلص ممن يحملون تلك الأفكار آملين أن تختفى الفكرة باختفاء أصحابها.
ويكفى أن نتأمل التاريخ، ليتضح لنا أن المؤسسات، والنظم، والتنظيمات، لا بد أن تنتهى يومًا، بل يمكن إنهاؤها عمدًا، وأن الأفراد جميعًًا إلى زوال، أما الأفكار فإنها تتجدد وتتطور ولا تفنى أبدًا طالما استمر الوجود البشرى، قد تجمد أفكار وتنغلق، وقد يعلو صراخها أو يخفت همسها، لكنها أبدًا لا تموت حتى ولو مات أصحابها أو قتلوا أو غيبوا وراء الأسوار. تتساوى فى ذلك أشد الأفكار سخفًا مع أكثرها رقيًا؛ تستوى فى ذلك العقائد الدينية والوثنية والإلحادية، والأفكار النازية والشيوعية والصهيونيّة والاشتراكيّة.... إلى آخره. الأفعال ترتبط بحياة أصحابها وتنتهى بموتهم، والمؤسسات تنتهى بانتهاء الحاجة إليها، أو بتدهور أدائها؛ أما الأفكار فما دامت قد خرجت من أفواه أصحابها أو من أقلامهم، فإنها تظل باقية حتى لو طال احتجابها.
رغم تلك الحقيقة العلمية التاريخية المؤكدة، فإن الكثيرين ما زالوا يتوهمون إمكانية اجتثاث الأفكار التى تهددهم من جذورها لاجئين إلى إقامة السدود فى وجهها، على أمل خنقها، فإذا ما صدمتهم حقيقة استحالة ذلك، وأن انتشار الأفكار الممنوعة يتضاعف ومصداقيتها تتزايد لجأوا إلى تجريم من يفصح عنها، متجاهلين حقيقة أن حظر التعبير عن فكرة معينة يزيد من انتشارها، ويكسبها مزيدًا من المصداقية ويكفل تسللها إلى العقول دون مقاومة أو تفنيد؛ وأن قتل أو عقاب حملة تلك الأفكار يجعل منهم رموزًا عصية على الفناء، وتحيط تلك الأفكار بهالة من الاحترام والقداسة قد لا تستحقها.
لقد مارس البشر على مدى التاريخ محاولات الإبادة الفردية والجماعية لأصحاب الأفكار المرفوضة من المحارق الهتلرية، إلى المنافى السوفييتية، فضلًا عن معسكرات التعذيب فى العديد من الدول، شهدنا إعدام آلاف المهرطقين والمرتدين والزنادقة من المسيحيين والمسلمين واليهود، شهدنا قتل حسن البنا، وشهدى عطية الشافعى، وسيد قطب، وفريد حداد، وأبوجهاد، وسلام عادل، وعبد الخالق محجوب، وفرج فودة، وعبد القادر عودة، وفرج الله الحلو، وأحمد ياسين وجيفارا، وغيرهم كثيرون.
ألم يسأل أحد نفسه ترى هل انتهت أى من الأفكار التى جسدها هؤلاء؟ ألم تخرج الصهيونية من رحم معاداة اليهود والمحارق النازية؟ ألم تسهم منافى سيبيريا فى انهيار الاتحاد السوفييتى فى النهاية؟ هل انتهى الفكر الماركسى بمقتل شهدى والحلو وحداد وجيفارا أو حتى بتفكك الاتحاد السوفييتي؟ هل انتهت الأفكار المجترئة على الأديان بالتخلص من آلاف المهرطقين والمرتدين والكفرة والزنادقة؟ هل انتهى الفكر المقاوم الفلسطينى باختفاء عرفات وأبو جهاد ورفاقهما؟ إن تعرض الأفكار للتداول المفتوح فى الشمس والهواء، هو السبيل الأوحد لفرزها بحيث تذبل وتتوارى الأفكار غير القابلة للحياة، وتبقى فى ساحة الصراع الفكرى تلك الأفكار القادرة على البقاء، إن محاولة الحفاظ على فكرة معينة وإبقائها بعيدًا عن التفنيد بحجة حمايتها من تهجمات وتجاوزات الآخرين، أشبه بالاحتفاظ بجسد ميت موصول بأجهزة التنفس الصناعى، ما إن تتوقف تلك الأجهزة الصناعية عن عملها حتى يدب إليه العفن، وهى لا بد متوقفة يومًا وإن طال الزمن.
ترى ألم يحن الوقت بعد ليدرك الجميع أن الحماية الحقيقية لأفكارنا ومعتقداتنا الدينية والسياسية والاقتصادية على حد سواء، إنما تتمثل فى تعريضها للهواء والشمس، والدفاع عنها فكريًا حيال نقد الآخرين لها مهما كان التجاوز والاجتراء؟ ألم يحن الوقت بعد للتسليم بحقيقة أن العنف مهما كانت مبرراته لم ينجح قط فى حماية أية فكرة مهما كانت قداستها؟ ألم يحن الوقت بعد للتسليم بأنه مهما بلغ يقيننا بصحة أفكارنا فإن ذلك اليقين لا يكفى وحده للحفاظ عليها وازدهارها؟ ألم يحن الوقت بعد للاقتناع بأهمية شعار «رصاصة مقابل رصاصة وفكرة مقابل فكرة»؟ وأن مخاطر الخلط بين القتال الفكرى والقتال المسلح، لا تقل عن مخاطر استبدال أيهما بالآخر.
ولا شك أن مصطلحات التسلل والتهديد والهدم والغزو، ترتبط بالاستنفار للقتال؛ وقد يدفع الحماس بالمرء دفاعًا عن كيانه الوطنى الثقافى الدينى إلى الخلط بين القتال المسلح والقتال الفكري؛ فيندفع صوب إفناء أعدائه الفكريين ومحوهم ماديًا من الوجود.
كثيرة هى الأفكار التى تستفز وتهدد مشاعرنا الشخصية أو الوطنية أو الدينية أو الإنسانية، وكثيرًا ما ينتابنا الغضب ونتمنى لو لم تكن تلك الأفكار قد وجدت طريقها للتعبير أصلًا، ومن الطبيعى أن تتجه غضبتنا إلى من يحملون تلك الأفكار المستفزة بحثًا عن سبيل للقضاء على ذلك التهديد، ونكون آنذاك حيال أحد سبيلين:
الأول: أن نقوم بتفنيد هذه الأفكار ومناقشة أصحابها علنًا، سعيًا لإقناعهم وتحصينًا لأنفسنا ولغيرنا من غوايتهم؛ وهو الأمر الذى يتطلب أن نكون أولًا على يقين من تماسك وصحة أفكارنا، وعلى يقين كذلك من قدرتنا على الدفاع عنها، فضلًا عن اكتسابنا مهارات الحوار اللازمة، وكلها أمور تحتاج جهدًا فى دراسة أفكارنا ودراسة أفكار الآخرين أيضًا، والقبول بعرضهم العلنى لأفكارهم.
الثاني: أن نوفر على أنفسنا كل ذلك العناء، ونختصر الطريق بإقامة سدود التحريم والتجريم للحيلولة دون انتشار تلك الأفكار، متخلصين من ضجيج الحوار وتجاوزاته؛ فإذا ما اكتشفنا استحالة ذلك؛ فلنحاول التخلص ممن يحملون تلك الأفكار آملين أن تختفى الفكرة باختفاء أصحابها.
ويكفى أن نتأمل التاريخ، ليتضح لنا أن المؤسسات، والنظم، والتنظيمات، لا بد أن تنتهى يومًا، بل يمكن إنهاؤها عمدًا، وأن الأفراد جميعًًا إلى زوال، أما الأفكار فإنها تتجدد وتتطور ولا تفنى أبدًا طالما استمر الوجود البشرى، قد تجمد أفكار وتنغلق، وقد يعلو صراخها أو يخفت همسها، لكنها أبدًا لا تموت حتى ولو مات أصحابها أو قتلوا أو غيبوا وراء الأسوار. تتساوى فى ذلك أشد الأفكار سخفًا مع أكثرها رقيًا؛ تستوى فى ذلك العقائد الدينية والوثنية والإلحادية، والأفكار النازية والشيوعية والصهيونيّة والاشتراكيّة.... إلى آخره. الأفعال ترتبط بحياة أصحابها وتنتهى بموتهم، والمؤسسات تنتهى بانتهاء الحاجة إليها، أو بتدهور أدائها؛ أما الأفكار فما دامت قد خرجت من أفواه أصحابها أو من أقلامهم، فإنها تظل باقية حتى لو طال احتجابها.
رغم تلك الحقيقة العلمية التاريخية المؤكدة، فإن الكثيرين ما زالوا يتوهمون إمكانية اجتثاث الأفكار التى تهددهم من جذورها لاجئين إلى إقامة السدود فى وجهها، على أمل خنقها، فإذا ما صدمتهم حقيقة استحالة ذلك، وأن انتشار الأفكار الممنوعة يتضاعف ومصداقيتها تتزايد لجأوا إلى تجريم من يفصح عنها، متجاهلين حقيقة أن حظر التعبير عن فكرة معينة يزيد من انتشارها، ويكسبها مزيدًا من المصداقية ويكفل تسللها إلى العقول دون مقاومة أو تفنيد؛ وأن قتل أو عقاب حملة تلك الأفكار يجعل منهم رموزًا عصية على الفناء، وتحيط تلك الأفكار بهالة من الاحترام والقداسة قد لا تستحقها.
لقد مارس البشر على مدى التاريخ محاولات الإبادة الفردية والجماعية لأصحاب الأفكار المرفوضة من المحارق الهتلرية، إلى المنافى السوفييتية، فضلًا عن معسكرات التعذيب فى العديد من الدول، شهدنا إعدام آلاف المهرطقين والمرتدين والزنادقة من المسيحيين والمسلمين واليهود، شهدنا قتل حسن البنا، وشهدى عطية الشافعى، وسيد قطب، وفريد حداد، وأبوجهاد، وسلام عادل، وعبد الخالق محجوب، وفرج فودة، وعبد القادر عودة، وفرج الله الحلو، وأحمد ياسين وجيفارا، وغيرهم كثيرون.
ألم يسأل أحد نفسه ترى هل انتهت أى من الأفكار التى جسدها هؤلاء؟ ألم تخرج الصهيونية من رحم معاداة اليهود والمحارق النازية؟ ألم تسهم منافى سيبيريا فى انهيار الاتحاد السوفييتى فى النهاية؟ هل انتهى الفكر الماركسى بمقتل شهدى والحلو وحداد وجيفارا أو حتى بتفكك الاتحاد السوفييتي؟ هل انتهت الأفكار المجترئة على الأديان بالتخلص من آلاف المهرطقين والمرتدين والكفرة والزنادقة؟ هل انتهى الفكر المقاوم الفلسطينى باختفاء عرفات وأبو جهاد ورفاقهما؟ إن تعرض الأفكار للتداول المفتوح فى الشمس والهواء، هو السبيل الأوحد لفرزها بحيث تذبل وتتوارى الأفكار غير القابلة للحياة، وتبقى فى ساحة الصراع الفكرى تلك الأفكار القادرة على البقاء، إن محاولة الحفاظ على فكرة معينة وإبقائها بعيدًا عن التفنيد بحجة حمايتها من تهجمات وتجاوزات الآخرين، أشبه بالاحتفاظ بجسد ميت موصول بأجهزة التنفس الصناعى، ما إن تتوقف تلك الأجهزة الصناعية عن عملها حتى يدب إليه العفن، وهى لا بد متوقفة يومًا وإن طال الزمن.
ترى ألم يحن الوقت بعد ليدرك الجميع أن الحماية الحقيقية لأفكارنا ومعتقداتنا الدينية والسياسية والاقتصادية على حد سواء، إنما تتمثل فى تعريضها للهواء والشمس، والدفاع عنها فكريًا حيال نقد الآخرين لها مهما كان التجاوز والاجتراء؟ ألم يحن الوقت بعد للتسليم بحقيقة أن العنف مهما كانت مبرراته لم ينجح قط فى حماية أية فكرة مهما كانت قداستها؟ ألم يحن الوقت بعد للتسليم بأنه مهما بلغ يقيننا بصحة أفكارنا فإن ذلك اليقين لا يكفى وحده للحفاظ عليها وازدهارها؟ ألم يحن الوقت بعد للاقتناع بأهمية شعار «رصاصة مقابل رصاصة وفكرة مقابل فكرة»؟ وأن مخاطر الخلط بين القتال الفكرى والقتال المسلح، لا تقل عن مخاطر استبدال أيهما بالآخر.