السبت 11 يناير 2025
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

إديث بياف

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
أمس الأول، التاسع عشر من ديسمبر، مر قرن بالتمام والكمال على ميلاد المغنية الفرنسية إديث بياف.. أشهر من غنى باللغة الفرنسية، وواحدة ممن شكلوا فن الغناء فى القرن العشرين فى العالم كله، مثلها مثل فريق «كوميديان هارمونيستس» الألمانى، الذى لا يعرفه الكثيرون، ولكنه كان أول فريق شبابى على الطريقة الحديثة، قبل ظهور فريق «البيتلز» البريطانى، الذى قلب العالم رأسًا على عقب، أو فرانك سيناترا وألفيس بريسلى الأمريكيين، بالإضافة طبعًا إلى بعض المغنيين الإقليميين، الذين حد انتشار لغاتهم ونفوذ بلادهم من شهرتهم، مثل أم كلثوم العالم العربى، أو مجموعة مطربى السينما الهندية فى الخمسينيات.
كان لإديث بياف أن تكون أقل شهرة لو ظهرت فى بلد غير فرنسا، وكان لها أن تصبح أكثر شهرة وتأثيرًا لو أنها ولدت فى أمريكا أو غنت باللغة الإنجليزية، وقد ذهبت بياف بالفعل إلى الولايات المتحدة وغنت هناك بالإنجليزية، ولكن لم تسعفها الصحة ولا الظروف لمواصلة ذلك.
فن الغناء، بالرغم من أنه الأسرع وصولًا إلى القلوب، إلا أنه الأكثر تقيدًا ومحدودية بنوع اللغة التى تغنى بها، لأن الأغانى لا تترجم كما يحدث فى السينما والأدب وحتى الشعر.
اشتهرت إديث بياف فى البلاد والمناطق ووسط الجاليات والتجمعات والأقليات التى تجيد الفرنسية، وساهم وجود الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية فى إفريقيا وبعض البلاد العربية فى هذه الشهرة، وهى معروفة بالطبع لدى «الطبقة» الفرانكفونية، التى تتكلم الفرنسية كلغة أولى أو ثانية، أو الذين تعلموا فى المدارس الفرنسية، فى مصر وغيرها.
لم تكن الفرنسية سوى لغة ثالثة لى فى الثانوية، ولم تكن بياف من المطربات اللواتى يظهرن فى برنامج «العالم يغنى» الذى كانت تقدمه القناة الثانية، وللك لم أتعرف عليها سوى فى مرحلة متقدمة من حياتى، وبالتحديد عندما قرأت كتاب المفكر اللبنانى حازم صاغية «الهوى دون أهله»، الصادر عن «دار الجديد» فى بداية التسعينيات، وهو كتاب عن أم كلثوم وعصرها، يخصص فيه فصلًا للمقارنة بين أم كلثوم وبياف، وهو فصل فاصل فعلًا فى الطريقة التى بدأت أنظر بها للغناء والفن والعواطف.. بعد قراءته حرصت على البحث عن ألبومات بياف والاستماع إليها وترجمة كلمات أغانيها.. وهو ما فتح الباب أمام مغنيين وفرق غنائية أخرى فى أوروبا وأمريكا كانوا فى طليعة الثورات السياسية والاجتماعية والجنسية فى هذه البلاد.
حتى تلك اللحظة كان الغناء بالنسبة لى، مثل معظم العرب الذين تربوا على أغانى أم كلثوم وعبدالوهاب وعبدالحليم، فنا رومانتيكيا «عفيفا»، من الغزل العفيف، مهذبا ومحفلطا ومحنطا فى معجم لا يتجاوز عدد مفرداته مائة كلمة.. مثل الحب والهوى والجوى والضنى والسهر والقمر والدمع والذكرى والشجن والهجر والغيرة والعزول.
أغانى إديث بياف لا علاقة لها بكل هذا اللغو العاطفى المفرط، الذى يعكس، كما يقول حازم صاغية فى كتابه، على ما أذكر، نوعا من النرجسية المفرطة، التى تعوض إحساسًا مفرطًا بالنقص، واستعذابًا لتعذيب النفس، وللتحليق فى عالم مثالى أحادى الجنس، أو غير جنسى، منزوع الدسم والواقع والرغبة. 
ليست هذه تعبيرات صاغية، ولكنها تأويلى لما قرأته، الآن، بعد أكثر من عشرين عاما على قراءتى للكتاب.
لا علاقة لأغانى إديث بياف بكل هذا اللغو، فكلماتها مستقاة من قاع الجحيم مباشرة: الحب الجسدى الملتهب والفقر وبيع الجسد والنفس والألم وخسارة الأحبة والأبناء.. عن المرأة الشهوانية التى تشبه البقرة وعن العلاقات العابرة مع البحارة وعن السماء التى لا ترحم.. وعن الشخصية التى لا تعرف الندم.
بقدر الجمال والروحانية اللذين تحملهما موسيقى أغانى إديث بياف، بقدر القسوة والقبح اللذين تعبران عنه.. وكما كانت أم كلثوم ثمرة لشعر الغزل العربى وشعراء المهجر والشعر الرومانتيكى الحديث الذى ظهر فى العالم العربى فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر والنصف الثانى من القرن العشرين، فقد كانت إديث بياف ثمرة لثورة الشعر الفرنسى الحديث الذى ولد على يد أرتر ريمبو وشارل بودلير والمدرستين الواقعية والطبيعية فى الفن التشكيلى والرواية والقصة القصيرة.
لا يمكن فصل أغانى بياف التى تتحدث فيها عن الشوارع الخلفية الفقيرة لباريس، عن قصائد بودلير التى تتغنى بجثة متعفنة لامرأة كانت جميلة، أو رسومات تولوز لوتريك التى يصور فيها كواليس حى البغاء.
قد ينظر الناس إلى فن الغناء كوسيلة ترفيه تكميلية لا ترقى إلى الموسيقى البحتة أو الشعر، فن سطحى لا يستطيع، وليس مطلوبا منه، أن يتناول الحياة اليومية المبتذلة أو المشاكل الاجتماعية، كل دوره هو التغنى، لا الصراخ.
إذا عدنا إلى عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين فى مصر، فسوف نفاجأ بأن الأغانى كانت أكثر جرأة وصراحة وخشونة وابتذالًا فى تناول الواقع، خاصة فى مدينتى القاهرة والإسكندرية، ولكن مع صعود الطبقة الوسطى المحافظة وسيطرتها على الحكم من بداية الخمسينيات، تحولت الثقافة والفنون، خاصة الغناء، إلى تابع أليف منقح ومهذب ومشذب ومنزوع الأنياب والأظافر، وقد استمرت هذه السيطرة حتى بداية السبعينيات، عندما انهارت الطبقة الوسطى وصعدت طبقة شعبية جديدة كان أبرز نجومها الشعبيين هو عدوية..
ولهذا قصة أخرى تستحق أن تروى.