للشاعر الراحل عبد الرحمن الأبنودى ديوان رائع ومميز اسمه «الفصول»، وده مالوش دعوة خالص بالفصول البايخة اللى بنقابلها من الشتا اللى دخل علينا بحماره وساب علينا كل بهايمه.
فصول الأبنودى أقرب ما تكون إلى تحليل نفسى وعقلى لعلاقة المصريين بالوقت.. بالزمن، وهى علاقة قديمة ومتشابكة يعرفها الفلاحون من أمثالى جيدا، ويحفظونها كما يحفظون التواريخ ظهرا عن قلب، وعن عقل كمان، فجميعنا يعرف «البلح الأمهات»، ويعرف «انزل الغيط وهات» فى إشارة إلى أن البصل الأخضر قد أصبح مهيأ لقطافه والتعامل معه طازجا -من الغيط للبطن مباشرة- كما نعرف أن «أمشير» لن يترك أجسادنا إلا وقد مزعها «نسير، نسير»، والنسيرة، هى أصغر وحدة فى «نوايب اللحم»، جميعنا ممن شارفوا على الخمسين يعرفون ذلك، وربما تليهم أجيال ما زالت تحتفظ بعلاقة مودة مع تراث القرى.
لكن ما نعرفه أيضا ولا علاقة له بالأبنودى، أننا نخشى الغيب، والمجهول، نتوجس منه ومن فصوله الأكثر غباء، ولذلك فنحن دائما ما نبحث عمن يحاول تفسيره لنا، بالطريقة التى تريحنا، فهناك من يقرأ الفنجان، وهناك من يقرأ الكف، وهناك من تخط «الحصى»، وتعد «نوى البلح»، وهناك من يقرأ الطالع، ويشوف البخت، نعم نحن نخاف من المجهول، ونفرح كثيرا بمن يقرأ لنا المستقبل حتى ولو كان كاذبا، وبنشعلق فى «آخر هداديب توبه»، وربما لهذا نفزع كثيرا من «الضلمة» والدروب المغلقة، من الشوارع الخلفية، والكلام المتغطى، وكثيرا ما نضرب «لخمة»، إذا ما انقطع النور فجأة وتجدنا نحوقل وبنمسل، ونقرأ القرآن، علَّه يكون السند فى تلك اللحظات -حتى وإن كانت قليلة- التى ينطفئ فيها نور المنزل، بالبلدى إحنا ناس اتعودنا ننام من المغرب، لأننا لا نحب المشى فى الطرق المظلمة، وربما نحن نخاف من الجن والعفاريت، لا لسبب إلا لأننا لا نعرفها، وربما لهذا السبب وحده لا نتخيل أنها تظهر بالنهار.
طالت المقدمة رغما عنى، ربما لأن ما أكتبه الآن عن ذلك «الغامض بسلامته»، المجهول الذى نخافه جميعا، وباختصار، لم أكن أتخيل أن ما أشعر به وأحسه، يشعر به كثيرون من أجيال مختلفة حتى جمعتنى بأصدقاء جدد جلسة سمر فى شرم الشيخ الأسبوع الماضى، وفوجئت أن الشباب القادم من محافظات مختلفة ولا ينتمى لأى تيارات سياسية، وجميعهم ربما يشعر أنه الأقرب إلى النظام الحالى، يتكلم نفس اللغة التى يتحدثها أصدقائى على المقهى، الجميع يشعر بأن «الوضع غير مستقر»، وأن الانتخابات البرلمانية التى كنا نحسبها نهاية المطاف، وبداية الطريق المضىء، ليست كذلك، وأن شيئا ما يحدث من حولنا يربك الجميع.
لم تكن قضية -الانتقام من خالد يوسف- هى وحدها المؤشر على أن هناك من يحرك الأحداث من وراء ستار، وأن ثمة رؤوسا قد أينعت وحان قطافها، هناك من رأى أن أبناء «٣٠ يونيو» يتفرقون، وهناك من يرى أن هناك من يفرقهم عمدا ليتخلص منهم جميعا على طريقة عبدالناصر الذى استعان بالإخوان فى يوليو ٥٢، ثم تخلص منهم كما تخلص من رفاق طريقه يوسف صديق، وخالد محيى الدين على سبيل المثال، وهناك من يرى أن هناك مذبحة قادمة للإعلام، ولن يستطع أبناء يناير أن يفتحوا فمهم ساعتها، فخالد يوسف من أبناء يناير أيضا، وإذا كانوا يرفضون ما حدث له، فإنهم حتما لن يتحدثوا عن حرية للإعلام على إطلاقها، وأن التشريع الذى يتم إعداده منذ فترة طويلة حان الوقت لإصداره الآن، وربما يكون من أوائل التشريعات التى سيطالب الجميع «برلمان ٣٠ يونيو» بأن يصدرها، وسرح الخيال ببعضنا إلى أن البرلمان نفسه بخلافاته التى سبقت انعقاد أولى جلساته لن يبقى طويلا، وأن المرجح أنه سيتم حله فى سبتمبر المقبل، بعد أن نكون قد انتهينا من انتخابات المحليات والتى سيتم الاعتماد على كوادرها كبديل قريب من الشارع له صلاحيات حسب الدستور، سيفرح بها المواطن العادى، ولن يحبنى أحد، عندما سألت ولماذا سنحل هذا البرلمان، جميع من فيه يعلن أنه مع الدولة، وجاء ليساند الرئيس، وأنه لن يجرؤ أحد على المعارضة الآن، فالجميع يعرف أن الناس لن تحتمل أى معارضة من أجل الفذلكة والتعطيل، لكن الصمت وعدم وجود إجابة لا يعنى أن الناس فى الشارع تشعر بعدم الرضا، سواء حيال هذا البرلمان، وتخشى من المجهول فى الوقت نفسه، لذلك فهى تكره أن يصل به الأمر إلى الحل، مجرد وجود فكرة أننا سنبقى بدون برلمان حتى وإن كان شكليا ولا يعجبنا، تصيب الناس بالإحباط.
الناس ينتظرون أن تسقط أى ثمرة من أى شجرة.. ينتظرون فرص عمل لأولادهم، ولا يعنيهم على الإطلاق صراع الأجهزة، أو صراع الأصدقاء على القرب من النظام أو البعد عنه، ولم يعد يعنيهم صراع السنة والشيعة، ولا صراع السنة والسنة، لا يعنيهم أن يكون هناك تحالف سعودى تركى قطرى أو لا يكون، أن تنتهى الأزمة فى سوريا أو تستمر، لم يعد يشغلهم سوى أن تتوقف الأسعار عند حد يسمح لهم بإطعام أطفالهم، وأن تتوقف المدارس ليرحمهم المدرسون من فلوس الدروس الخصوصية التى جلدت أجسادهم بما هو أقسى من برد الشتاء، أن تتوقف مافيا تهريب الأدوية المغشوشة التى أنهكت صدورهم حتى أصبحت الإصابة بدور «كحة» لعنة لا يقدر على علاجها كثيرون، يريدون وأريد أن تتوقف كل هذه الفصول البايخة التى تحاصرنا من كل جانب، وإلا فإننا مضطرون إلى أن نحول أغنية صديقى خالد شمس «يبقى يناير.. يشبه يونيه»، إلى شعار للثورة القادمة، التى يرجح المصابون بنزلات البرد الآن أنها ستكون فى سبتمبر!