وسط زفة غير مسبوقة من رؤساء دول العالم.. انتهت قمة المناخ فى العاصمة الفرنسية، وضرب وزير الخارجية الفرنسى لوران فابيوس بيده المطرقة وسط تصفيق حاد، معلنا موافقة ١٩٥ بلدا على بيان وصفوه بأنه تاريخى.
واستمر التصفيق دقائق عدة فى قاعة المؤتمر وسط تبادل التهانى. وصعد الرئيس الفرنسى فرنسوا هولاند إلى المنصة وأمسك بيد الأمين العام للأمم المتحدة بان كى مون، فى حين تعانقت مسئولة المناخ فى الأمم المتحدة كريستيانا فيجيريس طويلا مع كبيرة المفاوضين الفرنسية لورانس توبيان.
ويفترض أن يسرع هذا الاتفاق، الذى سيدخل حيز التنفيذ فى ٢٠٢٠، العمل لخفض استخدام الطاقة الأحفورية، مثل النفط والفحم والغاز، ويشجع على اللجوء إلى مصادر للطاقة المتجددة، ويغير أساليب إدارة الغابات والأراضى الزراعية.
والتعهدات التى قطعتها الدول حتى الآن لخفض انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحرارى، تسمح بألا يتجاوز ارتفاع الحرارة ثلاث درجات عما كان عليه قبل الثورة الصناعية.
وكأن الكلام بجد، هو بيان أشبه بالبيان، وكلام أشبه بالكلام، ومؤتمر أشبه بالمؤتمرات، وهزل فى موقع الجد ليس له مثيل.
من دمر البيئة والإنسان جاء يرتدى زى الواعظين مطالبًا الجميع بألا صوت يعلو على صوت إنقاذ الكوكب.. هذا الكوكب الذى يئن من أفعالهم كل يوم وكل ساعة وكل دقيقة.
كان المستر أوباما نجم مؤتمر المناخ، رغم أن شركات بلاده تعيث فى الأرض فسادا، وهى المسئولة بالدرجة الأولى عن تلوث وتدمير الكوكب.
وعند عودته صرح المستر أوباما فى البيت الأبيض بأن «اتفاق باريس يمثل إشارة قوية بأن العالم اتجه بحزم إلى مستقبل منخفض الكربون»، مشيرا إلى أن هذا الاتفاق «يفترض أن يشجع الاستثمارات والابتكار فى قطاع الطاقة النظيفة».
تغافل وتناسى المستر أوباما ما فعلته شركات بلاده ومازالت تفعله وسوف تفعله، حتى لوصدرت مئات أو آلاف من تلك البيانات التاريخية.
وأهم ما قاله المستر أوباما هو كلمة «يفترض»، وهى لا تقل مسخرة عن «قلق» بان كومون الامين العام للامم المتحدة على مستقبل الكوكب.
فى بحثها تحت عنوان «كيف تدمر الرأسمالية البيئة» المنشور فى
مارس ٢٠١٥ تقول داليا هانى:
إن الرأسمالية تدفع البشرية دفعا حثيثا باتجاه الفناء، وذلك فى سبيل تجميع أكبر كم مستطاع من الفوائد الفردية، وتضخيم الثروة الواقعة تحت سيطرتها مهما كان الثمن المبذول ومهما كانت العواقب.
فى عالم الصناعات لا صوت يعلو فوق صوت صناعات البترول ومشتقاتها، وما يرتبط بها من صناعات الطرق والسيارات، حيث لا شيء أهم من العوائد المتراكمة والأرباح المجنية من هذه الصناعات العملاقة.
وفى قائمة أقوى ١٠ شركات على مستوى العالم وأعلاها ربحية، نجد ٧ شركات فى القائمة، من بينهم ٤ من أعلى ٥، هى شركات على علاقة مباشرة بصناعات البترول والسيارات والطرق. ٣ صناعات مرتبطة ارتباطا صريحا وواضحا ببعضها البعض، ومرتبطة عكسيا بنظافة البيئة التى تعيش عليها البشرية. أى أن أكبر مساهم فى التلوث البيئى الهوائى بعوادم الكربون يتنافسون بين بعضهم البعض، وجميعهم يخشى، إن أقدم على التعديلات والإصلاحات المطروحة من العلماء كمحاولة لحفظ هذا الكوكب والحياة العضوية عليه، أن يخسر جزءا من كعكته لصالح المنافس الذى لن يتخلى عن أى جزء من ربحيته ومدخولاته.
ومن المساخر أن إحدى أهم الخدع فى البروباجندا المستخدمة إعلاميا فى تبرير مثل هذه المواقف- هى إرجاع حقيقة التلوث الجوى وارتفاع منسوب الكربون (الذى يؤدى بالتبعية لظاهرة الاحتباس الحرارى واختلال المناخ) إلى الزيادة السكانية، وهو التبرير الأسهل والأكثر شيوعا، لكنه يدعو للسخرية ويفتقد أى قدر من المصداقية، فبمراجعة الأرقام الصادرة عن كل دولة عن مستوى العادم لعدد السكان فيها، نجد أن دولة كالصين يصل عدد سكانها إلى ١.٤ مليار نسمة يساوى ٢.٦ طن مترى للشخص الواحد، فى مقابل دولة كالولايات المتحدة بتعداد يبلغ ٣٢٠ مليون نسمة يصل نصيب الفرد الواحد فيها إلى ١٩.٥ طن مترى للشخص الواحد، ودولة كإثيوبيا بعدد سكان حوالى ١٠٠ مليون تساهم بـ ٠.٠٤ طن مترى للفرد.
وبعيدا عن أنها فرضية شديدة العنصرية، فإن الأرقام تكذب ما ينشره الإعلام بشكل متكرر عن مبدأ «ابدأ بنفسك» و«حدد نسلك» و«خفض من استهلاكك الشخصى للعوادم»، رغم أن هناك ٩٠ شركة عالمية تنتج أكثر من ثلثى عوادم العالم، تبعا لمقال صحيفة الجارديان المنشور بتاريخ ٢٠ نوفمبر ٢٠١٣.
المهزلة الثانية هو ما اصطُلح على تسميته ببورصة الكربون العالمية، كالتفاف فج آخر على الاتفاقية سيئة السمعة، وهى الاسـم المختصر الذى يطلـقه الصناعيون على تجارة الغازات الدفيئة. وتتضمن هذه التجارة سوقا دولية للكربون وفيها أسعار محددة لطن الكربون الذى يتم إطلاقه فى الجو من قبل الدول الصناعية، والذى يدخل فى عملية تمويل مشاريع تجارة الكربون فى العالم.
أى أن الدول المتقدمة تستغل الدول النامية كمقايض، فمثلا مصر تساهم بمقدار٠.٥ وحدة من الكربون فى مقابل الولايات المتحدة التى تساهم بـ ٢٠ وحدة، فتقوم الولايات المتحدة بتبنى مشروع ما فى مصر يوفر انبعاثا لـ٠.٥ وحدة من الكربون، هنا يصبح نصيب مصر الفعلى من الانبعاثات ١ وحدة كاملة فى مقابل انخفاض وحدات أمريكا لـ١٩.٥ وحدة، كل ما يحدث هو نقل للحصص المستهلَكة من نطاق دولة تخطت الحد المطلوب منها دوليا لدولة أخرى لا تستهلك فعليا حصصها لتأخرها الصناعى مثلا، فيصبح الناتج النهائى نفسه قائما بلا أى تغيير إن لم يكن أسوأ مقابل صورة وردية لأرقام فارغة أمام الإعلام.
بورصة الكربون دخلت مصر فى عام ٢٠١٠ فى صورة مشروع إحلال السيارات القديمة بأخرى حديثة تحافظ على البيئة وتتحكم فى نسبة العوادم الناتجة، باعتبار أنها بذلك توفر مدخولا للدولة يتجاوز الـ٢٠ مليون دولار أمريكى سنويا فى صورة إمدادات ومعونات لتطوير النظام البيئى.
البنك الدولى وصندوق النقد الدولى، وهما أكبر سلاحين يسلطان على رقاب الدول النامية، هما المسيطران الفعليان على هذه البورصة سيئة السمعة، الشركات متعددة الجنسيات والعابرة للقارات هى المضارب الرئيسى فى هذه البورصة تحت رعاية الدول المتقدمة التى تحتضن مقرات تلك الشركات.
تغير المناخ هو بالدرجة الأول حرب يشنها الأغنياء على الطبقات العاملة، وصغار المزارعين والفقراء. إنهم هم الذين يحملون العبء نيابة عن أصحاب الامتيازات. عنف المناخ ناجم عن خيار الاستمرار فى حرق الوقود، وهو خيار الشركات والحكومات الغربية، جنبا إلى جنب مع النخب المحلية والجيوش. إنه نتيجة قرن من الرأسمالية والاستعمار. ولكن هذه القرارات يجرى باستمرار إعادة صناعتها فى بروكسل ودى سى، ودبى، ومحليا فى مصر الجديدة، ولاظوغلى والقطامية، وبن عكنون، وحيدرة والمرسى.
والتغيرات فى الدورة الهيدرولوجية ستقلل إمدادات المياه العذبة والإنتاج الزراعى. هذا يعنى المزيد من الواردات الغذائية وارتفاع أسعارها فى البلدان التى أصبحت تعتمد بالفعل على الاستيراد، مثل مصر. عدد أكبر من الناس سيواجهون خطر المجاعة والجوع.
الصحراء آخذة بالاتساع، ملتهمة الأرض من حولها. ويجبر ارتفاع مستوى مياه البحار المزارعين على ترك أراضيهم فى تونس والمغرب ومصر. المياه المالحة تدمر الحقول التى كانت خصبة فى دلتا النيل فى مصر ودلتا ملوية فى المغرب، وتهدد بأن تفيض وتقضى على مساحات شاسعة من المستوطنات الساحلية، بما فى ذلك مدن مثل الإسكندرية وطرابلس.
ستشتد حرارة الصيف. وارتفاع درجات الحرارة والإجهاد بسبب الحرارة يقتل الآلاف، وخاصة العمال الريفيين الذين لا يستطيعون تجنب العمل الشاق والعمل فى الهواء الطلق. وتيرة وقوة ظواهر الطقس آخذة فى الازدياد. العواصف الترابية والفيضانات تهدد حياة أفقر سكان المدن، وخاصة الملايين من المهاجرين الذين يعيشون فى تجمعات وأحياء غير رسمية على حافة المدن.
فوضى المناخ قد أتت حتى الآن على حياة الملايين من البشر وبددت المليارات من الدولارات. تقول «لانسيت»، المجلة الطبية «إن بقاء مجتمعات بأكملها فى العالم العربى قد أصبح على المحك».
وبعد كل ده يأتى المستر أوباما واعظا وحكيما، وتطالبنا الولايات المتحدة الأمريكية ومنظماتها الدولية بضرورة تحديد النسل خوفا على مصير الكوكب، صحيح اللى اختشوا ماتوا!