كان المطلب التركى المزمن والملح بإنشاء منطقة آمنة شمال سوريا يحظر فيها العمل على الجيش السورى وطيرانه، هو بمثابة تعبير عن فكرة أنقرة الخرقاء، بأن مجالها الحيوى يقع فى تلك المنطقة، وهى تتمدد- منذ زمن- فيه مذهبيا (السنة) وعرقيا (التركمان) وديمغرافيا (بمجموعة العائلات التى تعيش على ضفتى الحدود بين تركيا وسوريا).
كان كل شيء يسير كما تريد أنقرة.. فهى تعطى قاعدة إنجرليك الجوية للأمريكان كى يستخدمونها فيما تريد واشنطن، والذى يتركز معظمه على ضرب الجيش العربى السورى.. ثم كانت أنقرة تساعد داعش بالتدريب والتسليح وتقدم لهم طرقا للمرور عبر أراضيها، وتشترى منهم النفط السورى وتنقله إلى تركيا.. ثم كانت أنقرة تدرب وحدات من السوريين من أجل أن يكونوا فرقا تقوم باستعادة الشريط الحدودى (ما يسمى بالمنطقة الآمنة).
ولكن- فجأة- دخل على المعادلة السورية رقم غير متوقع، قلب كل شيء رأسا على عقب، ألا وهو الإنزال الروسى فى اللاذقية، وبدء غارات السوخوى وصواريخ كاليبر المجنحة على مواقع الإرهاب فى سوريا.
الوجود الروسى والتحرك العملياتى لموسكو تضمنا عدة رسائل:
الأولي: إلى إسرائيل مقرونة بتحذير للابتعاد عن جورجيا التى توثق تل أبيب معها العلاقات على نحو مثير، وبما يضمن لإسرائيل استخدام مطاراتها، وإسرائيل تتجاهل فى ذلك الإعلان الروسى المتكرر بأن هناك ثلاثة خطوط حمراء لا تسمح بتجاوزها هي: (جورجيا+ أوكرانيا+ بيللا روسيا).
والثانية: هى رسالة روسيا إلى أوروبا: (ابتعدى عن أوكرانيا).
وثالثها: رسالة إلى تركيا: (ابتعدى عن فكرة المنطقة الآمنة ولا تدخلى سوريا فى حساباتك).
والحقيقة أن رسائل موسكو الثلاث كانت تشير إلى معنى واحد، هو أن (روسيا تعود)، وهى تعود كقوة عالمية/ كونية، وليس كما حاول الأمريكيون تصويرها بعد انهيار الاتحاد السوفيتى على أنها أصبحت مجرد (قوة إقليمية)، وهو ما يتردد حتى الآن على ألسنة المسئولين فى إدارة أوباما.
والمتأمل لحادث إسقاط تركيا للطائرة الروسية سو- ٢٤ فى كمين جوى أعدته عن قصد وتدبر داخل المجال الجوى السوري، ثم ادعت أنه كان بسبب اختراق السوخوى للأجواء التركية، يري- بوضوح- أن الحادث وإن كان يبدو تآمريا بامتياز- ولكنه عبر عن انفلات أعصاب تركى كامل دفع أنقرة إلى ارتكاب تلك الحماقة.
ولقد تصاعدت ردود الفعل الروسية ضد تركيا منذ تلك الواقعة حتى الآن، وإن كانت شملت عناصر اقتصادية، فإن موسكو لم تستبعد أن تلجأ إلى أى خيار آخر، وهو ما يعززه إرسال مقاتلات وقاذفات أحدث إلى سوريا، وكذا منظومة للدفاع الجوي، وإرسال الطراد (موسكوفا) على مقربة من السواحل السورية، وأيضا إحدى الغواصات النووية التى أطلقت دفعة من صواريخ «كاليبر» المجنحة إلى مدينة الرقة عاصمة دولة الخلافة الداعشية.
وبالمناسبة، لعل تصاعد وتيرة مظاهر التسليح الروسية فى المنطقة على ذلك النحو يعكس ميلا روسيا إلى إزالة ما لحق بسلاح موسكو من إهانة بقيام مقاتلتين تركيتين من طراز (إف- ١٦) بإسقاط المقاتلة القاذفة سو- ٢٤.
وإن كانت هذه النقطة- بالذات- تستلفتنا إلى جوار الحشد العسكرى الروسى الكبير فى المنطقة، فإنها لا تنتقص- أبدا- من وزن وأرجحية العقوبات الاقتصادية التى أنزلتها موسكو بأنقرة.
فقد شملت تلك العقوبات وضمنها حصول تركيا على الغاز من روسيا (تحصل على ٦٠٪ من احتياجها من روسيا)، وهو الأمر الذى لن تستطيع تعويضه من البدائل التى رأتها (قطر- الجزائر- أذربيجان)، والذى هرولت قطر- بالذات- فى محاولة لسد الفراغ الذى تركته روسيا فيه.
ليس ذلك- فقط- ولكن احتجاب ٤.٥ مليون سائح روسى عن الذهاب إلى تركيا سوف يكون له تأثير كبير، إلى جوار منع العمالة والشركات التركيتين من العمل فى الأراضى الروسية، فضلا عن تعرض التبادل التجارى بين البلدين لاهتزاز كبير (٢٥ مليار دولار كانت مقدرة لحجم التبادل التجارى حتى نهاية ٢٠١٥ وكان أردوغان أعلن طموحه فى زيارته الأخيرة لروسيا فى سبتمبر الفائت أن يصل حجم التبادل التجارى بين البلدين إلى مائة مليار دولار عام ٢٠١٣).
نهايته ..
روسيا تحقق كل يوم تقدما كبيرا فى المربع السوري، وإحدى خطواتها الكبرى فى هذا المجال هو إبلاغ واشنطن للجانب التركى بأنه من المحتم عليه إغلاق مائة كيلو متر من الحدود «التركية- السورية» تستخدم فى تهريب النفط السورى والمقاتلين الدواعش.
يعنى واشنطن (تحت الضغط الروسي) أغلقت ملف المنطقة الآمنة التى تلح عليها تركيا على نحو زنان طنان لا يتوقف.
ليس هذا- فقط- ما جرى، ولكن واشنطن وفرنسا وبريطانيا- جميعا- بدأت الحديث عن عدم ممانعتها فى بقاء الأسد خلال الفترة الانتقالية.
وتطور حديث الحلفاء الثلاثة إلى كلام فرنسا عن ضرورة عقد حلف مع موسكو لمواجهة داعش، كما نادى بوريس جونسون عمدة لندن فى مقال نشر له الأسبوع الماضى بضرورة التحالف مع بوتين، هذا مع «العلم بأن العمدة كادر محافظ كبير».
يعنى كل شيء يتطور نوعيا فى الدائرة التركية أو محيطها المؤثر فيها، وبحيث لن تجد أنقرة أمامها سوى الانسحاب من حلمها الاستراتيجى بمنطقة آمنة شمال تركيا، إلى مجرد الاكتفاء بدور عملياتى صغير تقرره أمريكا.