فى المقال السابق تحدثنا عن الحماية البريطانية على مصر فى ١٨ ديسمبر ١٩١٤، الذى نص على أن تبعية مصر لتركيا أو للسلطنة العثمانية قد انتهت تمامًا، وهذه التبعية قد بدأت مع دخول سليم الأول لمصر فى عام ١٥١٧، أى أننا ظللنا تحت نير الحكم العثمانى قرابة أربعة قرون، فماذا قدمت لنا الخلافة العثمانية التى يتباكى البعض عليها؟، وهل دافعت عنا حين تعرضنا للاحتلال الفرنسى فى عام ١٧٩٨؟، وهل وقفت بالمرصاد أمام محاولة الإنجليز دخول مصر بقيادة «فريزر» فى عام١٨٠٧، وهل أرسلت جيوشًا جرارة من الآستانة للدفاع عن مصر عندما احتلها الإنجليز فى عام ١٨٨٢، ومكثوا فيها حتى أعلنوا الحماية وألغوا الوجود التركى؟، والحقيقة يا سادة أننا لم نستفد مطلقًا من العثمانيين، بل هم الذين استفادوا منا، ابتداء من اصطحاب سليم الأول لصناع مصر المهرة، وأخذهم إلى الآستانة لبناء المدن التركية، ومرورًا بالمدفوعات السنوية للباب العالى من ضرائب، ومحاصيل، وغلال، وانتهاء بإرسال الجيش المصرى بأوامر السلطان العثمانى لرد حركات التمرد والانفصال فى البلدان التابعة للأتراك أو ما يحلو للبعض أن يسميها بالخلافة العثمانية، والتى فى ظلها عانينا فقرًا، وتخلفًا، وفسادًا، وضعفًا حتى جاء محمد على فى عام ١٨٠٥، ونجح فيما يمكن أن نطلق عليه الانفصال الشكلى، والذى تحول إلى حقيقة تاريخية فى عام ١٩١٤ مع بداية الحرب العالمية الأولى، التى انتهت بهزيمة وانهيار الدولة العثمانية، ومن عجائب التاريخ أن الدكتور« تيودور هرتزل» المؤسس والأب الروحى لدولة إسرائيل، كان قد زار مصر فى عام ١٩٠٣ على رأس وفد من المؤتمر اليهودى العالمى، للبحث فى إنشاء دولة لليهود فى سيناء، وتم نشر الخبر فى جريدة الأهرام المصرية، ولم يعلق أحد ولم يعترض أحد ولم تفكر دولة الخلافة فى إصدار بيان عاجل لرفض هذا الأمر، بل إن بعض المصادر تؤكد لقاء الخديو «عباس» حاكم مصر آنذاك بـ«هرتزل»، ولمن لا يعرف فإن «هرتزل» قد بزغ اسمه ولمع نجمه بعد ظهوره لأول مرة فى قاعة محكمة الجيش فى باريس مدافعًا عن الضابط الفرنسى اليهودى «الفريد دريفس»، والذى كان متهمًا بالتخابر لصالح دولة أجنبية، حيث وقف «هرتزل» النمساوى فى قاعة المحكمة يقول : «إن دريفس لا يحاكم بصفته أحد ضباط فرنسا وإنما يحاكم لأنه يهودى، فاليهود لن يتمتعوا بالسلام والأمن والاحترام، وهم مشتتون بين أمم أخرى ، ولابد أن نسعى فى إيجاد وطن لكل يهود العالم»، وبهذه الكلمات التى قيلت فى ١٩ ديسمبر عام ١٨٩٤ بدأت فكرة البحث عن وطن لليهود، وأثناء عودة «هرتزل» إلى النمسا التقى فى القطار بالصحفى الهولندى «ماكس نوردو»، والذى كان حاضرًا لمحاكمة الضابط الفرنسى أيضًا، واستمع لدفاع «هرتزل»، وفى القطار تولدت صداقة بين الاثنين، وقام «نوردو» بنشر أفكار «هرتزل» فى عدة صحف أوروبية، كما قام أيضًا بترتيب لقاء بينه وبين المليونير الإنجليزى اليهودى «روتشيلد»، وأصبح «هرتزل» يمتلك القوة الإعلامية والقوة المالية، فأخذ يدعو إلى مؤتمر عالمى لليهود، وبالفعل تحقق ذلك فى ٢٩ أغسطس عام ١٨٩٧، حيث عقد المؤتمر الأول ليهود العالم فى مدينة «بازل» السويسرية، وبحضور نحو مائتى شخصية يهودية بارزة ينتمون لجنسيات مختلفة، وخلال هذا المؤتمر نوقشت بعض الاقتراحات باتخاذ الأرجنتين دولة يهاجر إليها اليهود أو اتخاذ أنجولا أو سيناء، وهذا هو السبب الذى دفع «هرتزل» لزيارة مصر ولقاء «عباس» حيث طلب منه توصيل مياه النيل إلى سيناء، لكنه رفض ذلك، وانتهى الأمر إلى ضرورة إيجاد الدافع القوى الذى يجعل اليهودى يسافر ويترك وطنه الذى ولد وعاش فيه ودفن فى ترابه أجساد أجداده، ومن هنا فكر «هرتزل» ومن معه فى إحياء فكرة أرض الميعاد «فلسطين»، التى كانت واقعة تحت حكم الخلافة العثمانية، ويروى السلطان عبد الحميد قصة اللقاء الذى جمعه بـ«هرتزل»، والذى طلب فيه السماح لليهود بالهجرة إلى فلسطين ولكنه اعترض بشدة، هكذا روى فى مذكراته، ولكن الحقائق التاريخية تؤكد ازدياد حركة الهجرة اليهودية فى ظل حكم عبد الحميد نفسه، وفى ظل الخلافة العثمانية صدر وعد بلفور عام ١٩١٧، وأثناء الحرب العالمية الأولى وتحديدًا فى عام ١٩١٦ تم التوقيع على اتفاقية «سايكس ـ بيكو»، التى تم تقسيم الشرق الأوسط بموجبها بين إنجلترا وفرنسا، وتم وضع خريطة جديدة لما سيحدث فى المنطقة بعد سقوط الدولة العثمانية.. وللحديث بقية.
آراء حرة
الشرق الأوسط الجديد "1"
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق