من أولها وبدون تزويق فى الكلام، أو ضغط على الحروف، أقر وأعترف بأننى أعانى حساسية مزمنة من «مصطلح رجال الأعمال»، وأنظر مثل كثيرين من أبناء القرى إلى هؤلاء باعتبارهم سادة لا يشتكون، لا تقترب النار من أثوابهم ولا أجسادهم ولا يقرحهم الجوع، هذه الصورة الذهنية لا أزعم أن الإعلام سببها، ولا الأفلام التى أنتجتها مؤسسة السينما فى زمن عبدالناصر، ولا أغانى «على راسى بستان الاشتراكية»، ولا روايات ديستوفيسكى وخيرى شلبى وعبدالرحمن الشرقاوى التى قرأتها مبكرا، لكن رجال الأعمال أنفسهم من وجهة نظرى هم السبب الأول والأخير فى صناعة تلك الحساسية وزرعها فى أجساد أبناء القرى والأحياء الشعبية من أمثالي، لأنهم لم يفعلوا من الأصل شيئا لتغيير تلك الصورة فى أذهاننا، ربما لأنهم من الأصل لا يروننا.
طالت المقدمة أعرف، وربما ابتعدت قليلا عما أريد أن يصل إليكم، لكن نعمل إيه، إحنا أهالينا علمونا نخبط على الببان قبل ما نخش!! الله يسامحهم إذا كانوا ربونا غلط، ما علينا، ما علاقة الشتاء الذى دخل علينا بالحنجل والمنجل، ورجال الأعمال، والقرى وناسها.
ثلاث وقائع كنت طرفا فيها خلال هذا الشهر جعلتنى أجمع كل هذه الأحداث والأشياء البعيدة فى سلة واحدة، لأن كل الطرق تؤدى إلى شتاء صعب ينتظره المصريون، وأنا أولهم.
كنت فى ضيافة أحد رجال الأعمال الكبار، هو باختصار واحد من خمسة رجال يعملون فى مجال الحديد وما أدراك ما الحديد، ما أنفقه على استثماراته بالمليارات، نعم مليارات، لا أتحدث هنا عن فئة المليون، لا بالمصرى ولا بالدولار، واستغربت أن أسمع منه «شكوي»، نعم شكوي، واستغربت أكثر أن أجد فى صدره ما أسمعه من «مقاولين صغار» على مقهى شعبى فى «فيصل أو الهرم»، «الدنيا واقعة» يقولها الرجل بمرارة جعلتنى أتطلع إلى وجهه مليًا -لم أكن أصدق، أو بمعنى أدق قلبى يحدثنى بألا أصدق، وفضولا منى، وها أنا فى حضرة رجل أعمال يشكو، وأنا الذى كنت أظنهم لا يشتكون، أمعنت فى الأسئلة ولمدة ٣ ساعات كاملة، والمحصلة أن هناك شيئا فى هذا سيؤدى إلى كارثة، شرح الرجل الأمر من بدايته، وكيف أنه لم يكن يرغب من الأصل فى دخول هذا النوع المكلف من الاستثمار، وأن الحكومة ممثلة فى رجلها القوى فى ذلك الوقت رشيد محمد رشيد، هى التى سعت إليه وأقنعته بدخول هذا النوع المكلف من «العمل»، بل وساعدته بمنحه تراخيص مجانية، وساعدت فى منحه تسهيلات بنكية، ثم فوجئ الرجل ومن معه -مستثمر لبنانى- بالحكومة ذاتها ترغمهما على شراء تلك التراخيص التى كانا قد حصلا عليها بالمجان، ثم جاءت «٢٥ يناير» وحدث ما حدث من أزمات فى الغاز والطاقة، وكان عليهما أن تستمر مصانعهما فى العمل ولمدة خمس سنوات، هما ملتزمان بدفع رواتب العمال، وفوائد ملايينهما التى سحبانها من البنوك، وشراء الغاز والكهرباء بأسعار مرتفعة كثيرا عما وافقت عليه الحكومة ساعة دخولهما تلك الصناعة، وحينما اختفى الغاز -ليس بإرادتهما حتما- توقفا عن العمل وتحملا الخسائر، ونفس الأمر عندما زادت أسعار الكهرباء، الآن وصل الأمر إلى ذروته، لا أموال جديدة يدفعانها، توقفا عن العمل تقريبا منذ ثمانية أشهر، لكنهما يدفعان الرواتب، وكلها أيام، وسيتوقفان عن الدفع أيضا!! هناك ستة آلاف عامل مصري، لن يجدوا رواتبهم فى مدينة مصرية واحدة هى مدينة السويس!! حاولت جاهدا أن أفهم، إذا كانت الدولة ستحصل على ١١ مليار جنيه ضرائب، فلماذا تصر على خسارتها فى مقابل عدم التنازل عن مليار واحد، أو بالأدق تقسيطه! وماذا ستفعل فى هذه العمالة التى سيتم تشريدها؟! كادت أنفاس الرجل تتوقف وهو يغالب بأسه ليرد على سؤال، هل التقيتما بكبار مسئولينا، وكانت الإجابة صادمة، كلهم يعرفون، من يناير، وحتى الشهر الماضي، ولا شيء يتحرك، حتى أصبح العجز هو عنوان المرحلة!
هذا المشهد العبثى لم يكن الأول بالنسبة لي، فقبلها بأيام حكى لى صديق أن مستثمرا عربيا جاء ليساهم فى مشروعات مؤتمر شرم الشيخ، وأنه ومنذ وقّع مذكرات التفاهم يعانى الأمرين، لأن السادة فى الحكومة يصرون على أن يدفع أكثر من ثلث استثماراته ما بين عمولات، وجمارك على تلك الأجهزة القادمة من الخارج لتجهيز تلك المصانع التى توفر ما يزيد على ٢٠ ألف فرصة عمل، وأن الرجل فقد الأمل تماما، ورغم أنه التقى رئيس الوزراء السابق المهندس إبراهيم محلب، إلا أن شيئا لم يتغير وأنه وصل إلى قناعة كاملة بأنه لا أمل فى إصلاح شيء والأفضل له أن يلم نفسه ويرحل من حيث أتي.
المشهد الثالث، مع رجل يعرفه الكبار والصغار، ومشروعه الطموح للتخلص من زبالة محافظة الجيزة كاملة، وإنشاء محطة كهرباء ضخمة من وقود تلك الزبالة، وتشغيل آلاف العمال فى المشروع، والأهم أننا لن نتخلص من الزبالة فقط، ولكن سنوفر الكهرباء للجيزة كاملة وبأسعار أرخص من تكلفتها التى تدفعها الحكومة حاليا، لكن أحدا لا يريد أن يوقع ورقة، ولا أحد يريد أن يتحمل مسئوليته، كلهم خائفون، كلهم يرفعون شعار «ابعد يا حب، ابعد بقولك لأ»، جميعهم ينتظرون -كما كنا ننتظر ونحن أطفال- أن تجف الترعة، وأن تظهر أسماكها فى القاع، أو كما يقول المثل البلدى «لم تقرقع الترعة تبان القراميط»، وها نحن نقترب من عمق الشتاء، وها هى الترع تجف، ولا أحد يتحرك، ثم يضحك هؤلاء جميعا على محمد محيى وأغنيته الجديدة «الخوف من اللى جاي».