الجمعة 22 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

قيمة العمل

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
تستخدم كلمة «الشغل» فى لغتنا الدارجة، للدلالة على «العمل» بمعنى بذل الجهد لتوفير الاحتياجات، وقد تسللت الكلمة إلى ساحات القضاء لنسمع القضاة يذيلون بعض أحكامهم بعبارة «مع الشغل والنفاذ»، كما أننا نطلق على من لا يعمل تعبير «خالى شغل»، ومن ناحية أخرى فقد ارتبط تعبير العمل فى تراثنا الشعبى، بنوع من السحر يرفع عن كاهل من يؤمنون به عبء تحمل الفرد مسئولية تعثره فى حياته العاطفية أو العملية وألقى بها على عاتق من سحر له ومن يتعهد بفك ذلك السحر، وقد اقتربت من تفاصيل ذلك كله خلال تلقى دروسى الأولى فى الأنثروبولوجيا والتحليل النفسى.
وحين قذفت بى أنواء السياسة فى غياهب معسكرات التعذيب فى أواخر الخمسينيات، كنا نستمع كل صباح لصرخات حراس معتقل أوردى ليمان أبوزعبل «صابك عمل» ولعله تعبير موروث من تاريخ الحكم العثمانى لمصر ويعنى «حان وقت العمل»، وكان ذلك العمل يعنى سوقنا لتكسير البازلت فى جبل أبوزعبل الشهير، وما زلت أذكر ملامح باهتة لحوار هامس ساخر شارك فيه عدد من ألمع أساتذة الاقتصاد المصرى، كان منهم الأساتذة الدكاترة فوزى منصور، وفؤاد مرسى، وإسماعيل صبرى عبدالله، وغيرهم ممن ضمتهم حلقة تكسير الأحجار تحت سياط وشوم الجلادين آنذاك حول انطباق المفهوم العلمى للعمل باعتباره جهدًا طوعيًا يقوم به الإنسان بهدف إشباع احتياجاته من السلع والخدمات، على ذلك الذى نقوم به، والذى كان نوعًا من السخرة الإجبارية، رغم أننا كنا ننتج بالفعل أكوامًا من البازلت التى تعد سلعة مثمنة بالمعنى العلمى، ولكن الجهد الذى بذل لإكسابها قيمتها كان جهدًا بلا أجر، أى أنه لم يكن عملًا مهما ارتفع صراخ السجانين «صابك عمل».
ومضت سنوات الاعتقال لأعود فى منتصف الستينيات إلى ممارسة حياتى المهنية أخصائيًا نفسيًا فى مصلحة الكفاية الإنتاجية، وأشهد بزوغ ظاهرة كانت جديدة آنذاك. لقد بدأ مفهوم «العمل» يتغير، الدولة ملتزمة بتعيين خريجى الجامعات والمعاهد الفنية والمتوسطة، وهو أمر منطقى فى ظل نظام يأخذ بالاشتراكية، ويقوم اقتصاده على القطاع العام، ولكن قدرة الدولة على خلق فرص عمل حقيقية جديدة، لم تتواكب مع تزايد أعداد الخريجين الذين استمر التزامها بتعيينهم، ومن ثم بدأت أعداد «العمالة الزائدة» تتضخم، وبدأ الناس يألفون ذلك بل ويسعدون به، فما زلت أذكر أحد معارفى آنذاك يقول إن ربنا سبحانه وتعالى قد أكرمه بتعيين ابنه فى وظيفة لا تتطلب منه جهدًا سوى أن يذهب لتقاضى مرتبه، وأنه يمارس إلى جانب وظيفته عملًا يدر عليه رزقًا.
وانتقلت للعمل لمدة عام مستشارًا لإحدى المنظمات الدولية فى منطقة الخليج، واستمعت من أحد الزملاء الذين سبقونى بسنوات، أنه أجرى حوارًا مع أحد أبناء البلد من العاملين البسطاء المتدينين، حين لاحظ تقاعسه فى عمله، فلفت نظره إلى تعارض سلوكه مع قاعدة أخلاقية دينية تقضى بضرورة بذل الجهد المطلوب، طالما تقاضى المرء أجرًا مقابل ذلك، وفوجئ صاحبى بالدهشة تعلو وجه محدثه، وهو يقول إن ما يتقاضاه من أجر لا علاقة له بعمل أو جهد، بل هو نصيبه المتواضع من الثروة البترولية.
ومضت سنوات لأشهد تراجع النظام شيئًا فشيئًا عن التزامه القديم بتعيين الخريجين، خاصة بعد أن أعطى ظهره للتوجه الاشتراكى، معتمدًا على تشجيع القطاع الخاص، مفسحًا الطريق أمام قوانين سوق العمل. وإذا كان ممكنا ـ نظريا على الأقل ـ التراجع عن «القرارات» الاشتراكية، بإصدار «قرارات» جديدة تحل محلها؛ فإن ثقافة الفصل بين الجهد والعائد والتى ترسخت عبر خبرات متراكمة محليًا وإقليميًا، ليست مما يمكن إلغاؤه بمجرد صدور قرارات سلطوية أو حملات إعلامية، وساعد على استمرار شيوع تلك الثقافة ارتفاع الأسعار، وكذلك ارتفاع مستوى الطموح والرغبة فى تأمين المستقبل، وما يتطلبه ذلك من موارد مالية تتجاوز العائد من الوظيفة الحكومية، بل ومن العديد من وظائف القطاع الخاص التى لا تتطلب مهارات فنية عالية.
لقد انتقل مفهوم «الأجر» من موقعه الطبيعى كمقابل للجهد المبذول فى العمل، ليصبح نوعًا من إعانة البطالة ـ التى تلتزم بها الدولة فى النظم الرأسمالية ـ ولكن فى مجتمع يستحيل فيه حصر حجم تلك البطالة، وأصبحت الشكوى الشائعة هى «كيف يمكن أن أعيش بمثل هذا المرتب؟» بدلا من «أننى أتقاضى أجرًا لا يتناسب مع ما أبذله من جهد». خلاصة القول إن فصم العلاقة بين الجهد والعائد، إما أن يؤدى إلى السخرة أو إلى البطالة المقنعة، وفى الحالتين هذا يعد نذيرا بخلل خطير فى بنية المجتمع يهدد بتفشى العنف والتحلل، وغنى عن البيان أن معالجة مثل تلك الظاهرة تقتضى أولًا قراءة حقيقية موضوعية تفصيلية لخريطة العمل فى مصر، تمهيدا لتحديد الحجم الحقيقى للبطالة وللعمالة الزائدة والعمالة غير المنظورة، فبدون إنجاز هذه المهمة سنظل ندور فى تلك الدوامة.