استمتعت بجلسة أشبه بالصالون الثقافى، وسط لفيف من مفكرين ورجال قانون ومنهم دكتور قانون ضابط شرطة فى الثلاثين من عمره جذب الانتباه، وتحول الحديث المتشعب عن المشاكل الشرطية والقانونية إليه لتنهمر الأسئلة، ويجيب بلباقة وحضور ورؤية طازجة بكر، بإجابات مقنعة على الكثير من التساؤلات التى حمل بعضها الهجوم على أداء الشرطة وتعليقات على هجوم الإعلام عليهم..تكلم باستفاضة عن قانونى الإرهاب والتظاهر..وعن العلاقة بين الضباط والمواطنين، أسباب اضطرابها وكيفية الإصلاح..تكلم عن أشياء تساعد الضباط على تأدية واجباتهم وتحميهم من التربص بهم واهتزاز الثقة فى قدراتهم..كان يترقب الحديث أحد كبار المحامين، وبين أنامله سيجار وفى عينيه نظرة رضا وإعجاب بهذا الشاب الذى ينتقد مواد قانون استطاع ببساطة أن يختزلها لتصبح أضبط صياغة وأعمق تأثيرًا ثم سأله المحامى الكبير: كم عدد الضباط الحاصلين على الدكتوراه فى الوزارة؟..وهل رؤيتكم تصل إلى قياداتكم، ويعملون بتلك الأفكار البناءة؟ ابتسم الضابط وأجاب أن الحاصلين على الدكتوراه فى القانون أقل من خمسين وهو ما يعادل ٢٥٪ من الحاصلين على الدكتوراه بوجه عام..وتهرب الضابط بلباقة وقال أنا وزملائى نقدم أرواحنا فداء للوطن فهل يعقل أن نبخل بأفكارنا؟ واستطرد: «نحن نبذل قصارى جهدنا بداية من الوزير إلى أصغر مجند» فتكلم الرجل بحنكته المعهودة وراوده لترك عمله والانضمام إلى الكتيبة المتميزة بمكتبه وبمرتب عشرة أضعاف راتبه، فأذهل الحضور بإجابته التى ملأت قلبى فرحًا: «تفتكر حضرتك أنى دخلت أكاديمية الشرطة وتحملت مشاق الدراسة بها ثم واصلت ليلى بنهارى بين أداء واجبى المهنى ومواصلة دراستى كى أترك عملي!!..وهل بعد أن حملنا زملاءنا على أكتافنا شهداء فى سبيل الوطن، أتخلى عن دورى فى الثأر.. من الخيانة أن نترك الشرطة للإرهاب ونحن أبناؤها..فأداء الواجب المقدس أسمى من الحياة فهل أتركه من أجل الأموال؟».. فبدأت بعض التعليقات الضاحكة «ياعم الجنيه غلب الكارنيه» وآخر «بذمتك بترفض ولا بتتعزز، ده أنت هتعيش حر».. وغيرها من التعليقات التى رد عليها ضاحكا: «لو كل واحد فينا شاف راحته ننام كلنا فى بيوتنا ولا نلبس طرح؟».. فأجابه القانونى المحنك: «ببعض الخبرة معى سيكون لك شأن عظيم».. فشكره الضابط على ثقته وإطرائه واعتذر بأدب.. لنخرج من المكان وهو أرفع قدرا واحتراما وأنا أكثر فخرا وتعجبا.. لأن لديه الكثير من المثالب على عمله، ولكنه تعفف أن يذكرها فى جلسة عامة وعملًا بالقول «ليس كل ما يعرف يقال».. وقد تيقنت أن من أسباب تفوق أصحاب الأعمال الحرة والقطاع الخاص أنهم يقتنصون الكفاءات النادرة وأصحاب المواهب الفذة ليعود عليهم بالتميز والنجاح وأتساءل:هل تستفيد وزارة الداخلية من رجالها المؤهلين قانونيًا أو أفادت بهم؟.. أم تهدر طاقاتهم العلمية فى الخدمات والأعمال اليومية؟.. هل حرص وزير الداخلية الذى يعانى هو وضباطه مما يسمى «تجاوزات فردية من ضباط» أن يجتمع برجاله القانونيين لوضع استراتيجية تساعدهم فى أداء العمل بعيدًا عن التجاوز مفعلين القوانين؟.. هل تم تكليفهم بالانتشار فى كل قطاعات الوزارة فيما يشبه الدورات التنشيطية للقانون؟.. هل اجتمع الوزير بهؤلاء الشباب الذين دأبوا على تحصيل العلم، لتأهيل أنفسهم لتستفيد منهم وزارة الداخلية؟.. هناك عشرات الآلاف من ضباط الشرطة منهم فئة قليلة حاصلون على دكتوراه فى القانون، وأقل من مائتين حاصلون على دكتوراه فى علوم الشرطة فهل يعملون فيما يناسبهم؟!.. وهل استدعتهم الوزارة لسؤالهم عن المكان الذى يرغبون العمل به ليحققوا أفضل عطاء؟.. أعلم أن الجهات السيادية والمميزة فى وزارة الداخلية تكون بناء على ما يسمى «الترشيح» وهو ما يعادل «الكفيل» فماذا يعنى الترشيح؟.. ممن؟.. ولماذا..وما قدرات الذى يرشح وبأى معايير؟.. هل بالكفاءة والتأهيل أم بوجود كفيل أى «واسطة»؟!!.. وماذا لو لم يكن الضابط دكتورا وله أسرة تساعده على تلبية احتياجاته؟.. أكان يستطيع رفض ما عرض عليه؟.. ألا تخشى الداخلية على أمثال هؤلاء من الإحباط عندما يجدون أن تحقيق مبتغاهم يحتاج إلي شفيع يتوسط لهم للترشيح؟.. وهل نحن دولة تؤمن بقيمة العلم وتشجعه؟..وإلى متى ستظل المواقع المميزة فى الدولة لا تخضع لمعايير واضحة فى الاختيار؟.. نحن نعانى من خلل فى الجهاز الإدارى، لأن الكثير من المتقلدين للمواقع المهمة تقلدوها بمساعدة كفيلهم سواء صاحب سلطة أو رأسمال، فيمنح الكفيل «ما لا يملك لمن لا يستحق» ونظل نعانى من سوء الاختيار.. لقد خرجت من تلك الجلسة وإيمانى أكبر بالشباب وقدراتهم، ونظرتهم الثاقبة التى تنهض بالمجتمع وفى كل المجالات، وكل من يقف أمام طوفان وعى وتأهيل الشباب مهزوم.. فالإدارة الراغبة فى النجاح تستغل الثروة البشرية وتعمل على استنهاضها وتجعل الفئات العمرية مجدولة كالضفائر..وأن فكرة «الشباب الغاضب» تأتى من كبار راغبين فى اصطناع غضبهم ليظلوا قابعين فوق كراسيهم بلا تداول. فيا أيها السادة المسئولون لا تخشوا وضع معايير حقيقية، وإن لم تكن فيكم فلن تطبق عليكم.. واجعلوا مصلحة الوطن فوق المحاباة والمحسوبية.. افتحوا أبوابكم، واجعلوا صدوركم أكثر اتساعا..فقد اختلف أبناؤكم عنكم فى الرؤى واللغة وأسلوب التفكير وما زلتم تصرون أن نحيا بأعراف وقوانين القرون الماضية..فكونوا أكثر تجردا وصدقا مع أنفسكم..واجعلوا ضمائركم اليقظة هى السبيل فى الاختيار.. وابتعدوا عن الكفيل والكفالة لترفعوا راية العلم والكفاءة.
آراء حرة
للداخلية: دولة "كفيل" أم كفاءة وتأهيل؟
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق