هل جربت أن تقرأ عن شخص تكرهه؟.. مؤكد أنك فعلت ذلك، فليس كل من تقرأ عنهم تحبهم.
لكنك حتمًا لا تقدر شعور من يكتب عن شخص بغيض، يحتشد له، يجمع معلومات كافية ليفهم أبعاد شخصيته، يعيد مواقفه ليشرحها، ويتأمل أفكارها، ليهتدى إلى طريقه دون أن يضل الوصول إليه.
أنا جربت كثيرًا أن أكتب عن أشخاص أبغضهم، أعرف عنهم ما يخجلهم.. وأخجل لهم مما أعرف أنهم يفعلونه.. لكن قدرى يدفعنى دائمًا إلى التفتيش فى ملفاتهم.. فنار الله الموقدة ليست فى الآخرة فقط، جعل بعضًا منها فى أقلام من منحهم القدرة على الكتابة ليكشفوا المزيفين من عباده الضالين.
لن أبحث فى ملفات أردوغان هذه المرة، إذا كنت تريد أن تعرف من هو، وكيف صعد من مجرد بائع بطيخ إلى رئاسة تركيا، فيمكنك أن تذهب إلى ويكيبيديا لتتعرف عليه بدرجة كافية، سأتوقف معك على هوامش ما شاهدته وسمعته وتوصلت إليه... وأنا أتابع هذه الشخصية الاستعراضية التى ضل صاحبها الطريق، فبدلا من أن يكون ممثلًا لتركيا ويتقلب بين الأدوار، فإذا به يستقر عند دور واحد يؤديه ببراعة وهو دور الرئيس.
كان يمكن لأردوغان أن يظل طويلًا على أرضية إتقان دوره كرئيس، لكن ولأن الأقدار لا تأتى دائمًا بما يشتهى أصحابها، فقد تحوّل إلى ممثل هزلى، يثير الشفقة أحيانًا، والغثيان طول الوقت.
يمكن أن تقف بى عند هذه النقطة، وتقول إن شهادتى مجروحة... فأنا أكتب عن رئيس دولة يعلن عداءه لمصر بشكل كامل، ولذلك فمن الطبيعى أن أجرده من كل فضيلة، وألصق به كل رذيلة... أن أجرجره فى الطريق العام عاريًا... وأتركه فى مواجهة من يبصقون على وجهه دون رحمة.
لا أنكر أن بغضى لأردوغان بسبب موقفه المعلن والخفى من مصر وشعبها وما يدور فيها، قد يكون بطلًا قوميًا عند مؤيديه فى تركيا، قد يكون أسطورة عند من لا يزالون يحلمون بالخلافة وعودتها، ويرونه الخليفة المنتظر، قد يكون فارسًا عند من يرونه يميل إلى كفتهم، ويتبنى خطابهم وينصر قضيتهم، فى النهاية هذه أمور تخصه وحده، ولا تشغلنى من قريب أو بعيد.
ارتبط أردوغان لفترة طويلة فى الذهنية العربية والإسلامية بأنه السياسى الشجاع، يذكرونك دائما بجلسته إلى جوار شيمون بيريز عندما كان رئيسًا لإسرائيل فى منتدى دافوس الاقتصادى، ويمكنك أن تطالع عنوانا مثل هذا على اليوتيوب «الأسد رجب طيب أردوغان يهين رئيس الكيان الصهيونى.
كانت أعمال دافوس فى العام ٢٠٠٩ منعقدة، بيريز يجلس إلى جوار أردوغان فى جلسة واحدة، دار الحديث عن الوضع فى غزة، دافع بيريز عن سياسة بلاده، رفع صوته واحتد وهو يوجه حديثه إلى أردوغان تحديدًا، أراد رجب أن يرد عليه إلا أن دافيد إينياتيوس، الصحفى الأمريكى الذى كان يدير الحوار، منعه من الرد بحجة أن الوقت انتهى.
ترك أردوغان مكانه غاضبًا وحتدا، وتحدث مع منظمى الجلسة قائلا: «لا أعتقد أننى سآتى مرة أخرى إلى دافوس، أنتم تمنعونى من الكلام».
انسحب التركى فجعلوا منه بطلًا، ولم يسأل أحد إذا ما كان رجب يعتبر إسرائيل عدوًا، ولا يرضى عن سياساتها فى المنطقة، ولا يعجبه ما تفعله بالفلسطينيين، فلماذا قبل أن يجلس من الأساس إلى جوار رئيس الكيان القاتل؟ لماذا استمع إليه؟ كان يمكنه أن يرفض الجلوس إلى جواره احتجاجا على ما يحدث فى غزة، لكن من قال لكم إن أردوغان يكره إسرائيل، أو يغضب مما تفعله.
كل ما فعله أردوغان الذى يتقن أدوار البطولة بمنتهى البراعة، أنه ضحك على عقول البسطاء، لعب بعواطفهم، ودغدغ مشاعرهم، فنظروا إليه على أنه فارس، قالوا إنه فعل ما عجز عنه الحكام العرب، وإذا قرأوا بعضًا من التقارير الصحفية المنتشرة على شبكة الإنترنت عن علاقة أردوغان بإسرائيل، فسوف يتبدد تمامًا إعجابهم بالرجل، الذى وضع علاقته مع إسرائيل بين قوسين، وفى جملة واحدة «عداء إعلامى... وتعاون سرى».
عنوان التقرير الذى وضعه مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية كان دقيقًا للغاية (تركيا وإسرائيل فى عهد أردوغان: صراع إعلامى وتعاون سرى)، وهنا بعض فقرات منه أعتقد أنها يمكن أن تكون كافية ليتبدد وهم البطل الأسطورى الذى انقض على رئيس إسرائيل فالتهمه.
يقول التقرير: «لا بد من النظر إلى العلاقات التركية الإسرائيلية فى عهد أردوغان من اتجاهين:
الأول.. العلاقات الرسمية.
والثانى.. العلاقات على الصعيد الشعبى.
من ناحية العلاقات الشعبية فإن الشعب التركى المسلم ينظر إلى إسرائيل على أنها دولة احتلال للأراضى الفلسطينية، ولهذا دائمًا نرى استنكارًا شعبيًا لما تقوم به إسرائيل من ظلم واضطهاد للفلسطينيين.
أما من ناحية العلاقات الرسمية فإنها تختلف تمامًا بل تكاد تتنافر مع المواقف الشعبية، والسبب فى هذا أن تركيا دولة حلف شمال أطلسى وتتماشى مواقفها الرسمية مع مواقف الأطلسى حيال إسرائيل.
ولو نظرنا إلى الموقف الذى أداه أردوغان (يبدو أن هذا الموقف كان فاعلًا جدًا فى مسيرة أردوغان السياسية، فهو حاضر فى كل ما يكتب عنه حتى الآن).. فى قمة دافوس الاقتصادية حين اتهم إسرائيل بأنها تتفنن فى قتل الأطفال خلال العدوان الإسرائيلى على قطاع غزة خلال شهرى ديسمبر ٢٠٠٨ ويناير ٢٠٠٩، ثم بدأ حملة لمساعدة الشعب الفلسطينى وإرسال قافلة سفن لرفع الحصار عن غزة واقتحام القوات الإسرائيلية لسفينة «مرمرة» وقتل عشرة من المواطنين الأتراك، لذلك كان يجب أن تكون العلاقات التركية - الإسرائيلية على أسوأ وجه، ولكن العلاقات الرسمية لم يصبها أى تشويه، واستمرت بين الدولة التركية وإسرائيل على أعلى مستوى فى النواحى السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية.
تقرير مركز الفرات يهتم بالتفاصيل، لكنى سأتوقف قليلًا عند محطة واحدة من المحطات التى جمعت أردوغان بإسرائيل.
لقد بدأت العلاقات الإسرائيلية مع تركيا بقيادة حزب العدالة والتنمية منذ منتصف التسعينيات من القرن العشرين، عندما كان أردوغان مسئول فرع حزب الرفاة فى إسطنبول الذى كان يترأسه نجم الدين أربكان.
وقتها تعرف أردوغان على السفير الأمريكى فى أنقرة (مورتون إبراموفيتس)، الذى قام بربطه بشخصية أمريكية مهمة جدًا لإسرائيل وهو (بول ولفوفيتز)، الذى شغل منصب وزير الدفاع الأمريكى فيما بعد، وعندما بدأ الأمريكيون بالتفكير فى دعم الإسلام الليبرالى فى المنطقة لم يكن أمامهم إلا أن يدعموا الإسلاميين فى تركيا، لأن العلمانيين لا يمكن أن يكونوا مثالًا للدول الإسلامية فى المشروع الأمريكى الجديد للشرق الأوسط، الذى بدأت ملامحه تظهر بعد الربيع العربى عام ٢٠١١.
كان أردوغان إذن مدعومًا منذ بداية حياته السياسية من قبل اللوبى اليهودى فى الولايات المتحدة الأمريكية، ولم يكن غريبًا على هذه الخلفية أن يمنحه المؤتمر اليهودى الأمريكى عام ٢٠٠٤، وسام الشجاعة، وهو الوسام الذى حصل عليه عشرة أشخاص فقط منذ تأسيس المؤتمر، والمفارقة أن أردوغان كان أول شخص غير يهودى يحصل عليه.
ولأن الفضيحة لا تظل كثيرًا فى مكمنها، فقد قال المسئول عن المؤتمر اليهودى أثناء تسليمه الوسام لأردوغان: «إن هذا الوسام ليس فقط تقديرا للخدمات التى قام بها أردوغان لأمريكا، بل أيضا تقديرا للخدمات التى قام بها لدولة إسرائيل، وموقفه الطيب تجاه المجتمع اليهودى فى العالم».
شخص مثل هذا لا يمكن أن يكون بطلًا فى معركة العرب والمسلمين مع إسرائيل، إنه فقط ممثل بارع لا يمكن الاستهانة بمواهبه فى الخداع، أوهم المسلمين والعرب أنه يقف بضراوة أمام رئيس الكيان الصهيونى محتجا على قتل الأطفال الفلسطينيين، وفى آخر الليل ذهب ليلقى بنفسه فى أحضانه، ليستمتع بدفء العلاقات بينه وبين من وصفهم علنًا بالقتلة.
الممثل طغى على أداء أردوغان بعد ٣٠ يونيو، لقد ضاعت أحلامه كلها، عندما نزل ملايين المصريين فى الشوارع ليكتبوا كلمة النهاية فى حكم جماعة الإخوان المسلمين.
فى عهد مبارك، الذى كان يعرف قدر وأطماع أردوغان جيدًا، لم يكن يستطيع أن يستعرض عضلاته كما فعل بعد أن أصبح الإخوان المسلمون فى صدارة الصورة، زار مصر قبل أن يصل مرسى إلى قصر الاتحادية، وبعد أن دخله أصبح على يقين بأن الأرض دانت له، وليس عليه إلا أن يقطف الثمرة.
عندما جاء أردوغان إلى مصر استقبله الإخوان المسلمون استقبال الفاتحين، كانوا ينتظرونه انتظار المهدى المنتظر، لكنه بعد أن جلس إليهم وتحدث معهم، لم يودعه أحد إلى المطار، بل هاجموه، وتحدث عنه مهدى عاكف، مرشد الإخوان الأرعن، بما لا يليق.
لم يفهم أحد سر تحول الإخوان، من الترحيب المبالغ فيه إلى الوادع الذى وصل بهم وبضيفهم إلى درجة الإهانة.
لكن من بحثوا عن العلة عرفوا السبب، فقد اختلف اللصان، كانت جماعة الإخوان قد أعدت نفسها لتقود العالم الإسلامى كله، بعد أن تصل إلى الحكم فى مصر، وهو ما لم يعجب أردوغان، فقد جاء ليخرج منهم باعتراف أنه الخليفة الذى لا بد وأن يتوجوه على عرش العالم الإسلامى.. ولما بارت خطته، خرج غاضبًا، ولم يكلفوا أنفسهم أن يودعوه.
بعد أن أزال المصريون الإخوان، احتج أردوغان هاج وماج، وبعد فض اعتصام رابعة رفع هو الإشارة أولًا، وتبعه بعدها الخرفان جميعًا، لكن المشهد الأكثر عبثية، كان عندما استضافه مذيع تركى، أجلسه على كرسى فخم، ودارت الكاميرا تصوره من كل زواياه، وهو يكاد يبكى، بل بكى بالفعل، وهو يستمع إلى رسالة قيل إن أسماء البلتاجى وجهتها إلى والدها قبل أن تموت فى رابعة.
كان الدور مرسومًا ببراعة، أداه أردوغان ليبتز مشاعر الناس، وضع نفسه فى قلب المعركة التى من المفروض أن ينأى عنها تمامًا، فلم ينل من المصريين إلا كراهية مطلقة، فقد تحول لديهم إلى شخص بغيض، وها أنا أتحمل عبء الكتابة عنه.
قرر أردوغان ألا تهنأ مصر أبدًا باستقرار، اسم تركيا يقفز فى وجوهنا فى كل مرة تحدث عملية إرهابية، ورغم أن أحدًا لم يقدم دليلًا على أن تركيا لها علاقة بإسقاط الطائرة الروسية فى شرم الشيخ، إلا أن هناك من ينحاز إلى أنها الفاعلة، وعندما أسقطت تركيا طائرة عسكرية روسية على أراضيها، تأكد لدى البعض أن لها أصابع فى إسقاط طائرة سيناء.
تحوّل أردوغان على هامش إسقاط طائرة روسيا على أرضه من ممثل إلى أراجوز، كان بوتين حاسمًا فى رده (صحيح أن رده حتى الآن لم يتجاوز التهديدات) لكن أخرج رجب عن هدوئه، اتهمه بوتين بأنه يشترى ويبيع النفط السورى لحساب تنظيم داعش، فى إشارة واضحة إلى أنه من يدعم التنظيم، فتحدى أردوغان بوتين، بل راهنه على البقاء فى الحكم لكل منهما إذا أثبت أن تركيا تشترى أو تبيع النفط الذى استولت عليه داعش من العراق وسوريا.
اجتهدت أجهزة ووسائل إعلام فى تقديم الدليل خلف الدليل على أن تركيا متورطة فى صفقات نفط داعش، ومن ساعتها لم نسمع لأردوغان صوتًا، فلا هو أكد ولا هو نفى، ولا هو التزم بالمراهنة التى أعلنها علنًا فى وجه بوتين.
ليس فى الأمر شيء غريب على الإطلاق، فإذا كنت أراه ممثلًا بارعًا، فما الذى يجعلنى أتعجب عندما أراه شخصًا كاذبًا ومدعيًا وباحثًا عما يصنع به أسطورته حتى لو كان زائفًا.
أردوغان على أي حال يعيش أيام مجده الأخيرة، قد يظل فى السلطة كثيرًا أو قليلًا، لكنه أصبح بلا مجد، فهو مجرد خادم لدى الغرب، والخدم يحصلون على بعض المكاسب، لكنهم فى النهاية يجدون أنفسهم فى مزبلة التاريخ.. هذا مصيره.. والأيام حاكمة بيننا.