حادث إسقاط طائرة «إف- ١٦» تركية لقاذفة روسية من طراز سوخوي - ٢٤ داخل المجال الجوى السورى منذ أسابيع كان علامة واضحة على تخبط النظام التركى وعصبيته الكبيرة التى تعددت شواهدها فى المرحلة الأخيرة، إذ حتى لو كان مسبب ذلك الجنون التركى هو تحريض ووز أمريكى، فإن ذلك أيضًا لا يمكن فصله عن تخبط واضح فى السياسات التركية التى رصدنا حالات تنقلها بين تأييد داعش وضربه أو التحالف مع الأكراد فى سوريا ثم ضربهم، أو إعلانات أحمد داود أوغلو (وقت أن كان وزيرًا للخارجية) عن أن الخيار الروسى والإيرانى فى سوريا أثبت صحته ثم أصبح ضد الوجود الروسى والعمل العسكرى الإيرانى منذ وقت الإنزال الذى قام به الروس فى اللاذقية وبدء عملياتهم من مطار حميميم ضد التنظيمات الإرهابية.
القصة كلها تبدأ بتعقب الهجمات الجوية الروسية لتنظيمات الإرهاب فى منطقة جبل «بايربوجاق» الواقع فى إقليم التركمان بمحافظة اللاذقية، إذ بدأت تركيا عندها دق طبول الحرب - وقبل حادثة إسقاط الطائرة بأيام، معلنة أنها تخطط لعمل مناسب فى الرد على هجمات الروس بمناطق التركمان، يعنى عملية إسقاط الطائرة كانت مخططة وهو ما تكشفه الوقائع والمنطق، إذ كانت شهادة الطيار الروسى الذى نجا مؤكدة أن الطائرة لم تدخل المجال الجوى التركى لثانية واحدة، كما لم تتلق تحذيرا واحدا صوتيًا أو مرئيًا من الطائرات التركية، كما تدعى أنقرة، ثم إن السرعة التى تتحرك بها الطائرات الحربية لا تسمح بتسجيل أى خروقات دقيقة إلا عبر أجهزة رادار، والرادارات السورية أكدت أن السوخوى لم تخترق المجال الجوى التركى.
إذن قامت تركيا بعمل مخطط لإسقاط الطائرة الروسية داخل المجال الجوى السورى بمساحة تتراوح بين كيلومتر وأربعة كيلومترات من الحدود التركية.
تركيا تعانى من اضطراب كبير لأن خططها تحطمت فى الشرق الأوسط مرتين، المرة الأولى حين أسقطت ثورة ٣٠ يونيو العظمى المشروع الأخرق لإحياء العثمانية من جديد وتحقيق الحلم الإمبراطورى الهبيل لرجب طيب أردوغان بأن يكون خليفة بنى عثمان، والمرة الثانية لتحطم الأحلام التركية فى الشرق الأوسط كانت فى سوريا نفسها، فقد كانت أنقرة أكبر متآمر على الدولة الوطنية فى سوريا، ومدت يدها متعاونة مع جميع من تآمر على سوريا من القوى الدولية والإقليمية.
تركيا هى من سمح لعشرات الآلاف من المرتزقة، جاءوا من ستين دولة، لدخول سوريا عبر حدودها معها، وتركيا هى التى سمحت بدخول السلاح الذى اشترته أطراف عربية من أوكرانيا عبر حدودها أيضًا إلى جماعات الإرهاب المنظم العاملة على الأراضى السورية، وتركيا هى من جعل مطلبها المزمن وشرطها على دول التحالف الذى تقوده أمريكا هو زوال الأسد وفرض منطقة حظر طيران على شمال سوريا، وتركيا هى التى خلقت مشكلة اللاجئين بدفع المواطنين السوريين إلى الإقامة فى معسكرات ومخيمات أقامتها لذلك الهدف، وتركيا هى التى استغلت ضعف الدولة السورية أمام هجمات الإرهاب وراحت تسرق حصصًا مما يخصها من مياه نهر الفرات، كما راحت تفكك مصانعها وتنقلها إلى تركيا، فضلا عن شراكتها فى سرقة نفط سوريا مع داعش، وتركيا - أخيرا - هى التى خلقت تنظيمات إرهابية من التركمان ودفعتها لقتال الدولة السورية، مثل لواء نور الدين زنكى وكتيبة السلطان الفاتح وكتيبة السلطان مراد وكتيبة السلطان سليم، وهذه - على وجه التحديد - التى استهدفتها السوخوى الروسية، بالإضافة إلى طوابير الشاحنات التى تنقل نفط داعش من سوريا إلى داخل الحدود التركية بما أطار عقل أنقرة.
إذن نحن أمام دولة فقدت صوابها لأن مصر ضربت مشروعها المخبول لإحياء العثمانية، ولأن روسيا ضربت مشروعها الباقى للاستيلاء على شمال سوريا، وبالذات بعد إضعاف بنية الدولة الوطنية المركزية فى ذلك البلد المنكوب.
ما أظهر حيرة تركيا، غير انفعالها العصبى وتدبيرها للهجوم على الطائرة الروسية، هو رد فعل أنقرة الصوتى أو الإعلامى والسياسى إزاء ما ظهر فى روسيا، وربما فى معظم أنحاء العالم من إحساس بالصدمة وتبشير برد فعل مخيف أو (عواقب وخيمة) على حد قول بوتين، إذ بدت تركيا - مرة أخري - مرتبكة وحائرة وخائفة، فهى تارة تدعو حلف الناتو لاجتماع عاجل، وتارة أخرى تتكلم عن (السيادة) التى انتهكتها روسيا أو اخترقتها، يعنى هى حاولت خلق مبرر لفعلتها بعدما قامت به بالفعل.
وإذا ذهبنا - بعيدا - وصدقنا الرواية التركية على الكلية والتفصيل فإن منهج تركيا فى المنطقة عبر السنين الماضية يدحض - تمامًا - الحديث عن السيادة.. إذ إن تركيا كانت هى الدولة التى تعودت اختراق الحدود العراقية بالطائرات، وأحيانا بالقوات البرية، لمطاردة فلول حزب العمال الكردستانى الذى تعده عدوها الأول، والذى تضرب قواعده بوحشية فى كل مكان بجنوب شرق تركيا، فتعبر عناصره والكثير من الأكراد إلى كردستان العراق.
تركيا تفعل ذلك دون اعتبار لسيادة العراق، وإذا قالت لنا إنها استأذنت الحكومة العراقية، فمن ذا الذى يقول بأن الحكومة العراقية تمثل كل العراقيين، فسواء أيام نورى المالكى، أو حتى فى اللحظة الراهنة، فإن الحكومة لا تمثل سوى فصيل واحد ذى طبيعة مذهبية هو الشيعة، أما بقية الفصائل فهى مهمشة وتم إقصاؤها بطرق متنوعة.
تركيا التى تتكلم عن (السيادة) أيضًا هى التى كانت البطلة الأولى لحكاية (قبر سليمان شاه) فى سوريا، إذ إن ساكن ذلك القبر هو حفيد مؤسس الإمبراطورية العثمانية عام ١٢٩٩، وقد أقرت اتفاقية بين فرنسا وتركيا إبان الانتداب الفرنسى على سوريا، أن يبقى الجيب الذى يوجد فيه القبر تحت سيادة تركيا، وله حامية من الجنود وبعض المركبات يتم تغييرها دوريا، ومن المعلوم أن ذلك القبر يحظى باحترام الترك إلى درجة تشارف القداسة، كل السابق تحدده اتفاقية دولية منذ ٩٣ عامًا، ولكن ما جرى منذ شهور بسيطة هو الطامة الكبري - فى سياق الحديث عن السيادة - إذ دخلت قوات حماية الشعب الكردية، بالمشاركة مع البشمركة فى غمار معركة كبرى فى عين العرب (كوباني)، وهنا دخلت القوات التركية فى عملية عسكرية تحت جنح الليل بنقل ضريح سليمان شاه من مكانه بجوار عين العرب إلى مكان آخر تراه تركيا أكثر أمانًا، وقد فعلت ذلك دون استئذان الحكومة السورية.. ألا يُعد هذا انتهاكا مروعًا للسيادة السورية، وإذا اعتمدنا المنهج أو النموذج التركى لـ(السيادة) على ذلك النحو، فإننا نقر بحق سوريا التوغل بقوات عسكرية داخل الحدود التركية، أو إزالة قبر سليمان شاه من على الأراضى السورية.
نحن بإزاء دولة مرتبكة.. حائرة.. ضاعت أحلامها وانهزمت مرتين فى أقل من سنتين.
ومن آيات الارتباك والحيرة كذلك ما يتعلق بالهوية، إذ تصر تركيا على الإلحاح والتمرغ تحت أقدام الأوروبيين من أجل انضمامها إلى الاتحاد الأوروبى، وهو ما وعدوهم به بالفعل فى مقابل سيطرة تركيا على أزمة اللاجئين داخلها.
وهو الأمر الذى رفضته أوروبا من قبل، وأعلن الرئيس الفرنسى الأسبق، فاليرى جيسكار ديستان، عام ٢٠٠٢، أن الاتحاد هو ناد مسيحى بما يعنى الرفض المطلق لتركيا التى لا تزال تحاول رغم معرفتها بأن فرنسا - وهى بلد أساسى فى الاتحاد الأوروبي - لا تقبل تركيا مطلقًا، وهناك إرث تاريخى دال على ذلك لعل أبرزه ما كتبه فولتير ساخرًا (إن المطبعة تؤدى إلى انتشار الجهل لأنها تنشر أفكار مفتى الدولة العثمانية)!
تركيا حائرة حول الهوية.. والحلم الضائع.. والسيادة.. وهى تجمع بين سمات الدولة والعصابة، فتسرق البترول والمصانع والمياه السورية، ثم تتحدث عن فساد النظام السورى الشرعى.