تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
ليس كل ما يلمع ذهباً، وليس كل خيالات ماء الصحراء حقيقة بل يكتشف من يتعقبها أنها محض سراب، وليس كل من يرفع راية الدين فى المربع السياسى صادقاً، فمن يراجع تاريخ البشرية منذ لحظة تدوينه، نحتاً على جداريات ومتون الأهرام والمعابد، وكتابة على الرقوق، حتى الكتابة فى المدونات الإلكترونية والأقراص المدمجة، وما سجله المؤرخون فى مجلداتهم وشهادات الأقدمين والمحدثين، لابد أن ينتهي إلى أن للحروب الدينية النصيب الأكبر فى سيرة الحروب، يستوي فى هذا الأديان الوضعية والسماوية، حتى تلك البدائية، ولعلنا مازلنا نتذكر ما فعله إخناتون الذى انتصر لعبادته وأزاح الآلهة الأخرى، وهدم معابدها وطارد كهنتها، ثم يتحالف مع فرسان المعبد الذين يمدون نفوذهم حتى إلى أروقة الحكم، مستشارون ومرشدون ثم حكاماً، لتبدأ مصر فى الإنحدار وتكتب الحروف الأولى فى قصة إضمحلال الدولة المصرية القديمة، وتشهد أول موجات الإحتلال التى لم تتوقف، وتتقلب بين الهكسوس والفرس والرومان حتى تصل للفرنجة.
وحين اعترف الملك قسطنطين بالمسيحية دينا رسمياً للأمبراطورية الرومانية بعد قرنين أو يزيد من محاولات سابقيه من الأباطرة إبادة المسيحيين بعنف لم يشهد التاريخ مثيله، يوظف العاطفة الدينية ـ وقد شهد جسارة المسيحيين واحتمالهم وصمودهم ـ فى مد نفوذه وخوض المعارك على الممالك المجاورة، كان مدخله أن رفع راية الصليب على بيارق جيوشه ليلهب حماس جنوده، بعد أن روج لرؤية تقول بأنه رأى الصليب فى كبد السماء وسمع صوت يقول بهذا تنتصر، ويتسلل رجال الدين الى أروقة الإمبراطورية ويفرضون سيطرتهم على أوروبا لتدخل فى نفق العصور الوسطى المظلم، وتتقاتل وتتفتت، حتى تنقذها الثورات المتتالية بثمن فادح تنطلق بعدها الى عصر التنوير والإصلاح بعد أن تحولت من المسيحية السياسية الى المسيحية المجتمعية التى عادت الى مربعها الروحى والرعوى والخدمى وتبسط يدها للإنسان لكونه إنساناً على امتداد خارطة القارات الست عبر مؤسسات خدمية إنسانية عابرة للجنسيات والإثنيات والأديان.
لم يكن شرقنا بعيداً عن هذه الخبرات المؤلمة، ولعل من يراجع التجارب الإسلامية السياسية يهوله ما حدث منذ دولة الخلفاء وحتى الإمبراطورية العثمانية، من تناحر وتقاتل وصراعات حتى صار الإنقلاب على الحاكم وتغييره فى بعض حلقاتها لا يستغرق شهوراً وربما اياماً، ورغم التلاقح الحضارى الفارسى والعربى والأندلسى الذى أسهم فى تأسيس علوم عربية رائدة، إلا أن التناحر السياسي الدموي كان حجر عثرة ارتد بالدول الإسلامية إلى التفكك، ومن ثم صارت لقمة سائغة فى أفواه موجات الاحتلال والنهب والتدهور، لتصبح الحلقة العثمانية رجل أوروبا المريض، وحتى اللحظة يتسول الانضمام للاتحاد الأوروبى بلا طائل رغم التنازلات المتوالية.
ورغم دروس التاريخ شرقاً وغرباً التى تؤكد كارثية إقحام الدين فى السياسة، وتحالف رجل الدين مع رجل السلطة، وتوحدهما احياناً وتماهيهما معاً، فى انتهازية لا تخطئها عين، مازلنا اليوم نجد من يسعى بكل قوته لإعادة انتاج هذه الأنساق، مع حشد التأويلات النصوصية المقدسة لدعم توجههم، وترويع المناهضين لهم فى مكارثية مصرية فجة، لا تتورع عن ترهيب وترويع الداعين لقومية مصر باعتبارها الحاضنة للتنوع والتعدد.
ظنى أن الانقطاع المعرفى يقف وراء هذا، وغرور التمايز وحلم إحياء نسق الخلافة المفارق للواقع هو الذى يحجب الرؤية عن الأعين، ويكفى أن يصرخ أحدهم فى وجهك بأنك كاره للإسلام وعدو له حتى يخمد صوتك فى مناخ مخاصم للتنوير وللمعرفة، بينما القبول المتبادل بين المصريين كان السمة المميزة للعلاقات البينية وإن اختل بفعل التيارات الانفصالية التى لا تعترف بمصر وطناً ويروجون لاعتبار الدين وطناً، ويتغافلون عن تجربة الغرب وكيفية خروجه للحداثة والتفوق دون أن يرفضوا الدين، وزعمهم فى تبرير هذا التجاهل أن المسيحية ديانة أخروية بينما الإسلام دين ودولة، فى مغالطة فادحة فالمسيحية دين يخرج الإنسان من ذاته ليبذل نفسه عن الآخر الذى هو كل إنسان، تأسيساً على لاهوت الفداء، والإسلام بحسب ثقاة المدارس الفقهية دين ودنيا وليس دين ودولة، وهذا أدعى ليشهد العالم القيم الإسلامية مترجمة فى خدمة البشر بعيداً عن خطابات الإذعان وافعال الترهيب والترويع التى رسمت صورة ذهنية كارثية.
وبات من الضرورى تجفيف المنابع التى تقنن هذا التوجه بشكل واضح، بأن يحظر قيام احزاب على اساس دينى ذلك لأن الدين ـ فى المطلق ـ أحادى وإلا لما بقى لليوم، ونحتاج لقدر من القراءة الصحيحة لواقع هذه الأحزاب على الأرض، هل يمكن ان تضم هذه الأحزاب غير الدائرة التى تتفق معها فى العقيدة والدين والمذهب والتأويل، باستثناء الوجود الاحتفالى الذى يفرضه القانون؟، وهل يمكن للمنضمين الإحتفاليين قيادة الحزب وتوجيهه؟، ولعل تجربة إسناد قيادة حزب الإخوان لغياب رئيسه إلى نائب رئيس الحزب الاحتفالي المسيحي، والتي واجهت مقاومة ورفضاً واعتراضاً جارفاً جمد القرار وغيره.
وعلى جانب آخر يكون من المنطقى أن تقوم أحزاب مماثلة بمرجعية مسيحية، فماذا ننتظر عندما يتنافس هؤلاء وأولئك فى الصراع السياسي، إلا موجة من الاحتراب والاقتتال فى مناخ محتقن قبلاً وملتهب ابتداء، يتضاغط فيه مع التراجع الاقتصادي والانهيار الثقافي والاختراق الغيبي؟.
التعلل بأن الغرب به أحزاب دينية يحمل مغالطة فادحة وفاضحة، فالمسمى تاريخي لا يتعدى لافتة الحزب بعد أن انتقلت أوروبا إلى الحداثة وما بعد الحداثة.
ويبقى أن قيام أحزاب على أساس ديني، أو بمرجعية دينية هو سير فى عكس الاتجاه، ينبئ بكارثة من إضفاء القداسة على الفعل السياسي، ولعل السؤال: لماذا تتعدد وتتصارع وتتنابذ الأحزاب الإسلامية رغم وحدة الهدف ووحدة المرجعية ؟.
انتبهوا أيها السادة إن كنتم تعقلون.