أكتب الآن وقد وصلت منذ ساعتين إلى باريس، كنت قد غادرتها آخر مرة في الخامس عشر من أبريل الماضى، سبعة أشهر- ويزيد- لم أزر تلك المدينة الجميلة، كنت قد تابعتُ- مثلى مثل الملايين- ما حدث في المدينة العريقة قبل أسبوعين، وتوقعت- عندما آتى إليها قادمًا من مصر- أن أشاهد تغييرات عميقة، والحقيقة أننى لم أشهد أي تغييرات ملحوظة بخلاف انتشار قوات شرطة إضافية في المطار، لكن سرعان ما تكشفت لى أمور كثيرة لم أستوعبها من خلال النظرة الأولى، كان قد مر على وصولى للفندق أقل من ساعتين عندما أخبرتنى صاحبة الصيدلية- التي أبتاع منها الأدوية دائمًا، وهى يهودية الديانة- عن كم الرعب والخوف الذي يعيش فيه أهل باريس منذ حدوث تلك العمليات، لأول مرة أشاهد تلك المرأة- المبتسمة دائمًا- تعلو وجهها ملامح الحزن والكآبة والخوف، في آن واحد، تسأل مضطربة: هل سيضربون مرة أخرى؟ تنتظر منى أن أجيبها، رغم أنها باتت تخاف حتى من جيرانها المسلمين، جزائريين كانوا أم مغاربة، لم تعد هذه السيدة- البسيطة والمتعلمة، في آن- قادرة على التفرقة بين هؤلاء البسطاء الذين قدموا من بلادهم يحدوهم الأمل في بناء حياة جديدة، وبين هؤلاء الإرهابيين أعداء الحياة.
في الصباح ذهبت لتناول الفطور، كعادتى عندما أتواجد في باريس، في مقهى الفوكيت العريق، عادة قديمة توارثها أجيال من العرب والمصريين من محبى العاصمة الفرنسية، عندما يفدون إليها- خاصة في الصيف- لم أر زحامًا كعادة ذلك المقهى كل صباح، "ربما أجواء الصقيع" قلت لنفسى، لكن درجة الحرارة لم تبلغ الخامسة بعد في باريس، ومرشحة لتصل إلى تسع درجات بحلول الظهر، كان المقهى- في ذلك التوقيت من كل عام- يعج بالرواد فماذا حدث؟!
كان عادل سيدهم- ذلك الصديق المسيحى المصرى الطيب، الذي يحلو لى مداعبته بالملاك- قد دعانى لتناول الغداء في حى سان ميشيل. هناك كان كل شيء يبدو هادئًا، قبل أن يفاجئنى عادل بأنه تأخر نظرًا لوجود إنذار بوجود قنبلة بالمترو، إنذار كاذب بالطبع، ولكنه تسبب في تأخر المواطنين عن الذهاب إلى أعمالهم.
في المطعم- الذي يقدم المشويات فقط- قال لى الشيف اللبنانى: كيف أحوال مصر؟ قلت له: أخبرنى أنت عن أحوالكم في باريس؟ فهز كتفه قليلًا وقال: ،كل شيء تغير في باريس بعد الأحداث"، جملة لخصت ما يشعر به العرب والمسلمون في باريس بعد تلك الأيام الدامية.
إنه الإرهاب دائمًا، عندما يضرب، يغير كل شيء، ألم يغير خرائط العالم بعد تفجيرات الحادى عشر من سبتمبر، التي طالت أهدافًا مهمة في نيويورك وواشنطن، ودفعت دولًا عظمى- ظلت عشرات من السنوات تتشدق باحترام حقوق الإنسان- إلى أن ترتكب أفظع الجرائم في أبوغريب وجوانتانامو، إنه كالسرطان عندما يهاجم الجسد، فيحيل كل شيء إلى خراب، حتى النفوس، لكن الغريب أن تلك المجتمعات لا تتذكر كل ذلك عندما يضرب الإرهاب بلادنا، لا تتذكر- هي أو عملاؤها ومريدوها- سوى حقوق هؤلاء الإرهابيين الذين يخطفون حياتنا ويحيلونها إلى شيء أشبه بالكارثة، تلك الرؤية الغريبة آن لها أن تختفى وأن نوحد النظرة والفكرة تجاه الإرهاب والإرهابيين وحلفائهم، بل كل من يبرر لهم أفعالهم أو يقدم لهم الدعم دولًا كانت أو منظمات، يجب أن نضع تعريفًا واضحًا للعمل الإرهابى والفكر الإرهابى، كى نقف على حدود من ينفخون فيه من روحهم، فيمنحونه الحياة عندما يصبح قاب قوسين أو أدنى من الموت، يجب أن نقف جميعا في وجه سرطان العصر، نقتلع جذوره ونجفف منابعه ونصوب نحو القلب لكل من يدعمه بالسلاح أو المال، أو الأفكار، فهى أكثر قوة وخطورة من سابقيها.
إن حلفًا عالميًا موحدًا لمواجهة الإرهاب بات واجب اللحظة، قبل أن يأتى اليوم الذي نلعن فيه صمتنا وتقاعسنا وانحيازنا لمصالح ضيقة ما سوف يقضى على حضارة الإنسان بل وإنسانية الإنسان في الأجل القريب.
اللهم بلغت اللهم فاشهد.