كان يمكن للبابا تواضروس- رأس الكنيسة المصرية- أن يريح نفسه تمامًا ويكتفى بإرسال وفد من معاونيه للصلاة على الأنبا أبراهام أسقف القدس، ويبدو أن هذه كانت الفكرة الأولى التى اعتمدها بعد معرفته بوفاته، لكن بعد ساعات قليلة عادت الكنيسة لتعلن رسميًا أن البابا سوف يسافر بنفسه.
الساعات القليلة التى فصلت بين القرارين جرت فيها مياه كثيرة، وأعتقد أنه من المهم أن تعلن الكنيسة ما جرى فيها، فهل تراجَع البابا عن فكرته الأولى من تلقاء نفسه، أم أن اتصالات سياسية سيادية حسمت الموقف وجعلته يشد الرحال إلى القدس بنفسه، وإذا كانت هذه الاتصالات جرت بالفعل- وهو أمر ليس مستبعدًا بالمرة- فما طبيعتها؟ هل كانت نصيحة أم أمرًا؟ أم مجرد نقاش تبادلت فيه وجهات النظر، وتم الاستقرار فى النهاية على أن يسافر؟!
لا يمكن أن أجزم بشيء، فأنا هنا أسأل فقط، والسؤال جائز، والإجابة حق مطلق للبابا شخصيًا، فيمكنه أن يجيب عن سؤالى، أو يلتزم الصمت، لا أحد ولا شىء يمكن أن يجبره على الإجابة.
وصلت إلى البابا آثار عاصفته التى أثارها فى وجه الجميع بقرار من كلمات معدودة، فهو أول بابا يسافر إلى القدس بعد احتلال الأرض العربية فى ١٩٦٧، وهو يكسر بما فعله قرار المجمع المقدس الذى صدر فى العام ١٩٨٠ بمنع سفر الأقباط إلى القدس ما دامت فلسطين تحت يد الاحتلال، وهو من خالف موقف البابا شنودة الحاسم والحاد بحظر السفر، وهو الذى لم يكن يسامح أحدًا يخترق القرار، حتى لو كان من المقربين له، كما أن البابا تواضروس نفسه انقلب على ما يمكن اعتباره ثوابته الوطنية التى أعلن الالتزام بها.
كان البابا تواضروس يستقبل محمود عباس أبومازن، الذى دعاه إلى أن يزور القدس، فالرئيس الفلسطينى لديه دعوة لا يملها بأن يزور العرب والمسلمون القدس لتخفيف وطأة الاحتلال عن أبنائه، فهم فى حاجة لأن يشعروا بأنهم ليسوا وحدهم فى مواجهة آلة الاحتلال الإسرائيلى، وقد دعانا عندما التقينا به فى مقر إقامته بقصر الأندلس بمصر الجديدة أن نزور القدس وألا نقول عن ذلك تطبيعًا.
لم يخرج البابا تواضروس عن ثوابت الكنيسة فى رده على الرئيس الفلسطينى، أعاد ما قاله البابا شنودة من قبل آلاف المرات، بأنه لن يدخل القدس إلا ويده فى يد إخوانه من المسلمين، ليعتقد الجميع أن تواضروس يسير على خُطى شنودة شبرًا بشبر وذراعًا بذراع.
العاصفة يمكن أن أفهمها فى سياقها تمامًا، بقايا الناصريين الذين بنوا مجدهم على رفض التطبيع، ووصم كل من يولى وجهه شطر تل أبيب بالعار، انتفضوا، وبدلًا من أن يناقشوا الأمر على أرضية سياسية كما كانوا يفعلون دائمًا، لجأوا إلى تخريج جديد، وهو أن البابا بزيارته يغذى الأرض الطائفية بنيران جديدة، سرعان ما تشتعل فى الجميع، وهى حجة واهية، وتبرير متهافت بالطبع، فالدكتور على جمعة، وهو من هو فى قامته العلمية والدينية، زار القدس، ولم تكن لزيارته عواقب ذات بال.
ستقول إن على جمعة فى النهاية لا يمثل إلا نفسه، فهو ليس حجة على الإسلام، على عكس البابا الذى هو رأس الكنيسة المصرية، موقفه لا يمكن اعتباره موقفًا فرديًا، ثم أن على "جمعة" دخل القدس عبر الممر الآمن من الأردن، بينما البابا حصل على تأشيرة إسرائيلية استثنائية، هى الأغلى سياسيًا فى تاريخ العلاقات بين مصر وإسرائيل، وعليه فعلى جمعة التف على رغبة الإسرائيليين فى أن يكون خاتمهم على جوازات سفر المصريين، بينما وقع البابا فى الفخ، وتجرع الكأس حتى آخره.
سأقول لك ورغم اعترافى بمنطقية ما تقول، إلا أننى لا يمكن أن أقر لبقايا الناصريين حجتهم، وكان الأولى بهم أن يأخذوا البابا على أرض سياسية ليناقشوه ويحتجوا على زيارته، لا أن يحولوا الأمر كله إلى أرض الصراع الطائفى البغيض، خاصة أن هذه اللغة فقدت بريقها ورونقها، وإذا حاول الناصريون أن يستطلعوا آراء الأجيال الجديدة فى قضية إسرائيل وعلاقتنا بها، فسوف يسمعون ما لا يرضيهم.
العاصفة الأكبر التى أعتقد أنها ستهب على البعض ستكون من الأقباط الذين يحرقهم الشوق لزيارة الأماكن التى عاش وصلب فيها المسيح - طبقًا لمعتقدهم - بعد أن منعتهم الكنيسة سنوات طوال، من مجرد التطلع لتحقيق هذه الرغبة الدينية، وأعرف أن أقباطًا كثيرين ماتوا وهم أسرى الحنين إلى مهبط المسيح ومرقده، لكنهم قدموا طاعة السلطة الدينية رغم اعتقادهم بعنفها وحدتها على أشواق أرواحهم.
صحيح أن هناك آلاف المسيحيين الذين سافروا إلى القدس عبر قبرص واليونان وبلدان أوروبية أخرى، فلم يقدروا على مقاومة حنينهم، وبعض هؤلاء كان مقربًا من البابا شخصيًا، ويصرح فى العلن أنه ملتزم بقراره، لكن فى السر فعلها، وكان مقتنعًا تمامًا بما أقدم عليه، وأمثال هؤلاء لم يتعرضوا لعقوبة كنسية كانت تصل فى بعض الأوقات إلى الحرمان من التناول لمدة عام كامل، لكن فى المشهد العام وعلى السطح كان هناك التزام شبه كامل بالقرار الذى لم يخترقه البابا شنودة تحت أى ظرف من الظروف، ولم تغلبه أبدًا أشواقه الدينية أو تجبره اتصالات سيادية أو ابتزازات عاطفية على أن يتزحزح عن قراره خطوة واحدة.
فى السنوات الأخيرة التى أعقبت وفاة البابا شنودة، خرج بعض الأقباط وعددهم ليس هينًا ولا قليلًا على القرار الكنسي، وقاموا بزيارة القدس، والمفاجأة أن الكنيسة لم تعترض طريقهم، كل ما فعلته أنها غضت الطرف عن زيارة الأماكن المقدسة، وكأنها لا ترى ما يحدث، ما دام لم يتحول إلى ظاهرة وعادة متكررة تحرج البابا الذى أعلن أنه ملتزم بقرار البابا شنودة والمجمع المقدس.
الآن سوف يأخذ الأقباط جميعًا من زيارة البابا تواضروس حجة يسندون ظهورهم عليها، وهم يشدون رحالهم المادية والنفسية إلى أرض المسيح، لن يلتفتوا إلى ما قاله من هناك عن أن ما جرى لم يكن زيارة بأى صورة من الصور، لأن كلمة زيارة تعنى التجهيز المسبق، وتحضير جدول زيارات ومواعيد وأماكن، وهو ما لا ينطبق على وجوده هناك، بل سيلتفتون فقط إلى أنه فى النهاية قام بالزيارة- كما قال هو- من أجل أداء واجب إنسانى للعزاء، ولمسة وفاء لإنسان قدم حياته كلها على المستوى الوطنى أو الكنسى لخدمة الأقباط، وتعزية لكل أبنائه الأحباء المتواجدين فى القدس، سيركز الأقباط أيضاً إلى أن هناك واجبًا دينيًا يجب عليهم أداؤه، وما دام البابا خرق القرار نزولًا لاعتبارات إنسانية، فالقاعدة إذن موجودة، وهى خرق الحظر لاعتبارات تخصهم، يرونها هم أولى بالرعاية والتنفيذ.
لقد ألقى البابا تواضروس كرة النار خلفه وسافر، ولأننا نعيش عصرًا لا تهدأ فيه العواصف إلا إذا تحدث أصحابها، فقد خرج البابا بنفسه عبر قناة الكنيسة ليتحدث فى محاولة منه لوضع النقاط فوق الحروف واستيعاب كل ردود الفعل على زيارته الإيجابى منها والسلبي.
أعرف أن البابا تواضروس حكيم بما يكفى، ربما تنقصه الخبرة التى تمنحها له السنون، لكنه عندما تحدث بدا واثقًا من موقفه ومن قراره، قدم تبريرًا للزيارة، بعد أن أكد أنه يعز عليه انتقال مطران الكرسى الأورشليمى الأنبا أبراهام، هذا المطران الجليل فى محبته وخدمته وكلمته، ولذلك كان واجبًا على البابا- وعلى الكنيسة- أن يشارك فى مراسم الصلاة على جثمانه، وكان من المناسب جدًا له كما يرى هو أن يرافقه وفد قبطي من مطارنة وأساقفة وشمامسة، لكى يودعه الوداع الأخير فى القدس، حيث مقر خدمته التى خدم من خلالها الأقباط فى حوالى ١٠ دول.
لجأ البابا تواضروس إلى التبرير، بما يعنى أنه عرف جيدًا أن هناك من غضب من الزيارة، فتحدث عن فضل الأنبا أبراهام على الأقباط، وكأنه يقول للغاضبين إن الرجل يستحق.
أعرف أن البابا قرر السفر إلى القدس بعد أن عرف وصية الأنبا أبراهام بأن يدفن فى المكان الذى خدم فيه، وقام بدور وطنى عظيم، فقد كان مساندًا بشدة للقضية الفلسطينية، بما يعنى أن الوصية أجبرته على القرار، وكان لا بد أن يكون هناك، لكن ولأنه يعرف الموقف السياسي، فقد حاول التخفيف من حدة الغضب، أشار فى كلمته إلى أنه لم يسافر وحده، بل كان معه وفد، ثم إن ما سيقوم به هو أداء واجب فى حق ميت، وهو ما لا يمكن أن يعترض عليه أحد، لكن يبدو أن البابا أدرك أن حديثه عن فضل الرجل وأداء الواجب ليس كافيًا لإقناع من احتجوا على الزيارة، فبدأ رحلة التبرير من جديد.
ذهب البابا كما قال بحكم منصبه الرسمى كبطريرك للكنيسة، وبحكم علاقته الشخصية بالأنبا أبراهام، فعندما دخل تواضروس الدير فى العام ١٩٨٦ كان أبراهام من أوائل الرهبان الذين تعامل معهم فى دير الأنبا بيشوب، وعندما أصبح راهبًا فى العام ١٩٨٨ كانت له مع أبراهام نفس المسئولية، وهى استقبال الزوار الأجانب فى الدير، وهى المهمة التى استمرت لعامين، تعلم تواضروس فيهما من أبراهام الكثير، فلا يزال يعتز بروحه المرحة وأسلوبه اللطيف وقدرته الهائلة على كسب النفوس من حوله.
هل كان هذا كافيًا ليتقبل من غضبوا زيارة البابا إلى القدس؟ لم يكن كافيًا على الإطلاق، وهناك عدة ملاحظات أعتقد أن البابا لا بد أن يشتبك معها بعد أن يعود من زيارته، فقد قال ما أراده هو، وما يعتقد أنه صحيح وكافٍ، ولم يقل ما أراد شعبه أن يسمعه، ودعونى أحدد ما يتردد حول زيارة البابا فى نقاط محددة.
أولًا: يرى أقباط كثيرون أن البطريرك بحكم منصبه غير ملزم على الإطلاق بالصلاة على كل أسقف يتنيح، والدليل الذى يقدمونه على كلامهم أن الأنبا ميخائيل، مطران أسيوط وشيخ المطارنة، عندما تنَيَّحَ لم يذهب الأنبا تواضروس إلى أسيوط للصلاة عليه، وأسيوط على كل حال أقرب، وعليه فكان يمكن للبابا أن يرسل مندوبًا عنه للصلاة على الأنبا أبراهام.
ثانيًا: يشكك أقباط كثيرون في ما ذهب إليه البابا من أن ما جرى منه فى القدس لم يكن زيارة على الإطلاق، فلا ترتيبات مسبقة ولا جدول مقابلات أو زيارات، لأن المهمة لو كانت للصلاة، وتقديم واجب العزاء، لسافر البابا يوم السبت، وهو يوم المراسيم الجنائزية للأنبا أبراهام، إذن ما الداعى لأن يسافر قبلها بيومين؟ وهو سيكون متاحًا لنا أن نعرف ماذا فعله البابا فى اليومين على وجه التحديد.
ثالثًا: إذا كان هناك من ينفى- بإصرار- أن زيارة البابا إى القدس لا تُعَدُّ تطبيعًا ولا كسرًا لقرار المجمع المقدس، فلماذا لم يدخل البابا إلى هناك من بوابة الأردن؟ وبذلك يتجنب أن تكون تأشيرة إسرائيل على جواز سفره، فكان خيرًا له أن يعبر طريق الكبار رغم ما فى ذلك من متاعب، بدلًا من أن يهبط بالطائرة فى مطار بن جوريون بتل أبيب، لقد أضعف موقفه، وسيكون عليه أن يبذل مجهودًا كبيرًا ليقنع من ينتظرون كلمته أن ما فعله ليس تطبيعًا، أو على الأقل خطوة- ولو غير مؤثرة- فى مسيرة التطبيع.
لقد أراد البابا تواضروس أن يرسل رسائل خاصة إلى العالم كله- وليس للمصريين فقط- بزيارته إلى القدس، أعلى من قيم الوفاء والإنسانية، فقد انهارت كل المحاذير السياسية والأمنية أمام رغبته فى أن يؤدى واجبًا إنسانيًا لرجل- يعتقد هو أنه- يستحق أن يودعه ويلقى عليه النظرة الأخيرة، لكننى أعتقد أن هذه رسالة عارية، ولن تصمد طويلًا أمام المعانى السياسية التى حملتها الزيارة، فى النهاية البابا فى القدس ودخلها عبر تل أبيب، ولم يكن حتى حكيما مثل الرئيس الأسبق مبارك الذى رفض تمامًا أن يزور القدس طوال فترة حكمه، وعندما أجبرته الظروف على أن يسافر إلى إسرائيل، كان ذلك من أجل تأدية واجب العزاء فى إسحاق رابين، ويومها سافر مبارك وعاد فى نفس اليوم.
سأترك كل الجدل حول زيارة البابا، أعرف أن الجدل سينتهى وتبقى آثاره- إيجابية أو سلبية- لكننى سأتوقف عند معنى واحد، وهو أن البابا تواضروس كان فى حاجة ملحة لمثل هذه الزيارة، التي أصفها بأنها زلزال، هذا الرجل تنقصه أحداث عظيمة لتكتمل صناعته كبطريرك له كاريزما وتاريخ وأثر، وأعتقد أن الزيارة- حتى لو اختلفنا حولها- عمل كبير وضخم، لقد دخل البابا تواضروس بما فعله طريق الكبار، وليس عليه إلا أن يستسلم بعد ذلك لأقداره.