حقيقة لا تحتمل سوى الإقرار بها.. إن الغرب يمر مرور الكرام على كوارث المنطقة العربية.. ضحايانا مجرد أرقام أو «أنصاف ضحايا».. الإرهاب على أراضينا «حادثة» لها ألف تبرير ودراسة تُعتمد داخل أروقة أجهزتهم الاستخبارية وفق رؤية نظرية بعيدة تماما عن أرض الواقع ثم تروج لها وسائل الإعلام الغربى كحقيقة مؤكدة.. والنتيجة الحتمية عجز هذه النظريات عن مواكبة التحولات كما حدث مؤخرا حين باغت تنظيم داعش العالم فى تخطيط عملياته الإرهابية.
الدلائل على الأخطاء الكارثية التى تصر أمريكا على الترويج لها لدى الرأى العام فى أوروبا عديدة لعل أبرزها بدأ مع استحواذ «عصابة الإخوان» على الحكم فى مصر.. سارعت أمريكا إلى تبنى نظرية اعتبار هذه «العصابة» فصيلا سياسيا يُمثل الإسلام المعتدل وعلقت عليه الآمال فى الوقوف كحائط صد أمام التيارات الجهادية! تكرر الخطأ الاستراتيجى الذى سبق للإدارة الأمريكية الوقوع فيه مع تنظيم طالبان عقب الغزو الروسى لأفغانستان وكان السبب وراء إرباك جميع غزواتها العسكرية بداية من حربها على تنظيم القاعدة وصولا إلى التخبط الذى تدور داخل فلكه منذ عام فى مواجهة داعش.. تتعالى أمريكا على قراءة التاريخ الذى يقر أن العنف له الأولوية فى عقيدة «البنا» حين استهل إنشاء الجماعة بتشكيل ميليشيات مسلحة قبل أن تظهر فيما بعد الأطماع السياسية فى التمكين والوصول إلى الحكم.. بالتالى مقومات الفصيل السياسى لا يمكن أن تنطبق تاريخيا – ولا حتى فى الحاضر- على تنظيم الإخوان.
تغافل الغرب فى جميع خططه التى وضعها للحرب على الإرهاب عن الاعتراف بالروابط التى توحد بين التنظيمات الجهادية وتنظيم الإخوان أضفى الكثير من التخبط على هذه الخطط.. حادث انفجار الطائرة الروسية فوق سيناء واكبه تركيز على دافع انتقامى ضد التدخل العسكرى الروسى فى سوريا.. بينما تراجع الاهتمام عن الهدف من وراء هذه الجريمة التى تخدم مصالح الإخوان فى ضرب الاقتصاد المصرى وإظهار مصر كدولة غير قادرة على حماية أمنها وأمن ضيوفها.
أيضا من المؤشرات الهامة التى تدل على وجود هذه الروابط سواء فى الأهداف أو المصالح أو الأساليب.. ظهور أول عنصر نسائى من تنظيم داعش فى الزلزال الإرهابى الذى ضرب فرنسا مؤخرا.. حيث عثر على جثة فتاة ضمن الذين تمت تصفيتهم فى مداهمات الشرطة الفرنسية لمنفذى الحوادث الإرهابية.. بعد اقتصار دور النساء داخل التنظيم على جهاد النكاح دفع داعش نساءه للمشاركة بدور مماثل لما تقوم به نساء الجماعة.. حيث استعانت بهن الجماعة عبر تاريخها فى تصدر المظاهرات وتنفيذ عمليات انتحارية وتهريب أسلحة.. إلى آخر هذه الجرائم التى يشكل فيها العنصر النسائى وسيلة لخداع أو لتقليل حدة تدخل الأجهزة الأمنية.. المثير للدهشة أن الأجهزة الاستخباراتية الأوروبية ما زالت عازفة عن وضع هذه الروابط وغيرها تحت الدراسة الجادة.. والأغرب استمرار الأصوات «النشاز» فى وسائل إعلام ومراكز بحوث أمريكا وبريطانيا التى تتبنى المزاعم الساذجة حول كون الإجراءات القانونية التى اتخذتها مصر فى ٣ يوليو والتى أنقذت البلاد من حرب أهلية هى وراء تغذية هذه التنظيمات!! علما أنه لم يسبق صدور أى رد من هؤلاء المنظرين على الحقائق التى تؤكد أن إنشاء القاعدة تم بتمويل وتسليح أمريكى.. ثم انتقلت إلى العراق ومنها إلى سوريا لتخرج من عباءتها باقى التنظيمات بعد الغزو الأمريكى للعراق.. كما لم تلق اعترافات قادة هذه التنظيمات بالانتماء إلى جماعة الإخوان أذنًا صاغية من الغرب.
الهجمات الإرهابية على باريس كشفت تحولا كبيرا وغير مسبوق فى استراتيجية داعش عن سابق العمليات التى نفذتها فى عواصم أوروبا.. بعدما اقتصرت هذه العمليات على زرع متفجرات فى الأماكن العامة أو محطات المترو أو اغتيال عشوائى.. اتجه مسار التنظيم نحو قدرات أكثر تعقيدا ومهارة ظهرت فى مخطط استهداف ٧ مواقع فى فرنسا خلال توقيت متقارب.. من المرجح أن تراجع التمدد الجغرافى لداعش مؤخرا نتيجة القصف الروسى فى سوريا وعمليات قوات التحالف الدولى فى العراق أظهر هذا التحول الذى نقل أولويات أهداف التنظيم من مد نفوذه عبر الانتشار الجغرافى على المنطقة بين العراق وسوريا إلى اقتحام عواصم أوروبا فى عمليات أكثر تنظيما فى اعتمادها على عنصر التخطيط الدقيق وفق تصريحات المدعى العام الفرنسى الذى أكد أن التخطيط لتنفيذ هجمات باريس استغرق عدة أشهر.
دول أوروبا وإن كانت متفقة على عدم التدخل العسكرى البرى فى الحرب على داعش.. بالتأكيد ستجد نفسها مجبرة على تقبل عدة متغيرات وضوابط ليس فقط على صعيد الحرب ضد الإرهاب.. لكن فى الكثير من الثوابت الفكرية والثقافية التى اعتمدتها تاريخيا.. مثل حريات العقيدة والتعبير والرأى.. هذه القيم التى يتفق الجميع على إعلائها.. لكن مع الوضع فى الاعتبار مراحل تطور عقيدة الخداع التى حكمت وما زالت تحكم التنظيمات الإرهابية منذ «عصابة البنا» وحتى داعش.. والتى مكنتها من التمتع بالحماية الأوروبية تحت ستار حرية الممارسات الدينية والسياسية.