قالوا لنا: إن الطائرة الروسية
التي سقطت فوق رمال سيناء كانت بسبب الإهمال في مطار شرم الشيخ، ولأن الأمن المصرى
غير قادر على إحكام السيطرة، ولو كان يقظًا بعض الشىء ما سالت كل هذه الدماء، التي
تحول أصحابها إلى أشلاء. زاوية الكاميرا تحولت قليلا، نحن الآن غادرنا سيناء، نجلس
معكم في قلب العاصمة الفرنسية، تفجيرات أمام مدخل استاد «دو باريس» الذي تقام فيه مباراة
بين ألمانيا وفرنسا، يحضرها الرئيس الفرنسى هولاند، ينشغل الأمن الفرنسى بتفجيرات الاستاد،
بينما يتحرك إرهابيون في ثلاثة شوارع في باريس يقتلون العابرين على مهل، وقبل أن يفيق
أهل عاصمة النور، يحتجز إرهابيون أكثر من مائة رهينة في أحد مسارح مدينة الفنون، وبالقرب
منه يهاجم إرهابيون مطعمًا.
لكن بعيدًا عن الخيال، فما جرى على الأرض
يؤكد أن المدينة الأوروبية التي كانت تستعد لاستضافة قمة المناخ، وهى قمة عالمية استعدت
لها بأكثر درجات الاستعدادات الأمنية، لم تكن إلا قطعة جبن مليئة بالثقوب والخروم، فلا
استعدادات ولا أمن ولا تأمين.
عدد القتلى الذين نحسبهم عند الله شهداء
- فقد ماتوا غدرا وغيلة - يمكن أن يتجاوز خلال أيام أكثر من ٢٠٠، فالجرحى الذين خلفتهم
رصاصات الإرهاب سينضم عدد كبير منهم إلى القائمة والخسائر التي منيت بها فرنسا لا
يمكن تقديرها لا ماديا ولا معنويا، فقد انكسرت الدولة التي لعبت أدوارًا مهمة خلال
السنوات الأخيرة، والتي كانت حاضرة في مفاصل الأزمات الدولية، ومن بينها الأزمات التي
خلفها وراءه الربيع العربى، بغباره وكوارثه.
لن أعيب على فرنسا غياب الأمن، فالأمن
كان موجودًا، والمعلومات كانت متوفرة لدى الأجهزة الأمنية، عن استهداف باريس بعملية
إرهابية، لكن من قال إن الأمن يمكن أن يمنع حربا يشنها عليك أشباح لا يمكن أن تراهم
أو تتنبأ بتحركاتهم القادمة، أو ضرباتهم المفاجئة.
يمكن للأمن في مصر أو في باريس أن يحبط
عمليات إرهابية، ويقف في منتصف الطريق أمام مخططات تخريبية، وقد حدث هذا كثيرًا، لكن
ليس معناه على الإطلاق أنه يمكنه منع الإرهاب بشكل كامل، فهذا يحتاج قدرة إلهية خارقة،
تقول للشىء كن فيكون.
تستطيع أن تعرف ما حدث في باريس عبر تغطيات
إخبارية، أعتقد أنها لا تزال مستمرة حتى الآن، ولن تنقطع لأيام قادمة، فما جرى لا يقل
عنفا ولا أثرا ولا تأثيرا عن أحداث ١١ سبتمبر التي أذهلت الأمريكان وألجمتهم، بل إن
الدماء التي سالت في شوارع باريس، لم تمر على الفرنسيين منذ الحرب العالمية الثانية
التي انتهت في العام ١٩٤٥.
أعتقد أن دلالات ما جرى هي الأولى بالتأمل،
تستحق أن نتوقف عندها ولو قليلا، ويمكن أن نضع أيدينا على مجموعة نقاط.
أولًا: لا يوجد
في العالم إرهاب واحد، لدينا نوعان من الإرهاب، الأول هو الذي يقع في بلادنا، لا يتعامل
معه الغرب بوزنه ولا بحجمه ولا بتأثيره، فالغرب في الغالب يتعامل معنا على أننا جميعًا
إرهابيون، لا فرق بين إرهابى في الحكم، وإرهابى مطارد، وعندما يرتكب إرهابى عملا تخريبيا
يلتمس له الغرب العذر، على أساس أنه معارضة مشروعة.
فعلوا ذلك مع الإخوان المسلمين وحلفائهم
في ٣٠ يونيو، كانوا يتعاملون معهم على أنهم معارضة للنظام، وعليه فما يرتكبونه من أعمال
إجرامية وإرهابية ليس سوى بعض من المقاومة التي كانت في شرعهم مشروعة.
أما عندما تتعرض إحدى دول الغرب لعمل إرهابى،
فإنها تتعامل بقوة وقسوة، جورج بوش الصغير بعد أحداث ١١ سبتمبر خرج علينا ليقول: إن
العالم انقسم إلى فسطاطين، فمن ليس معه فهو عليه، والرئيس الفرنسى هولاند، قال إنه
سيعلنها حربا بلا هوادة على من ارتكبوا العمل الإرهابى ضد بلاده.
العنف في المواجهة ليس لأن عملًا إرهابيًا
فقط جرى على الأرض الغربية، ولكن لأن من يعتبرونهم مواطنين من الدرجة الثانية هم من
ارتكبوا هذا الفعل، فالغرب عنصرى حتى في الإرهاب.
لا أستسلم هنا لنظرية المؤامرة، لكنى لا
أستطيع أن أمرر استهداف طائرة روسية، انقلبت بعدها الدنيا على رأس مصر، وتحول الحليف
الأقوى لمصر في العالم منذ ٣٠ يونيو إلى صديق حذر، يأخذ إجراءات وقائية حماية لرعاياه،
جعلته يتأخر خطوتين، فقد شغلوا بوتين بشؤونه الخاصة، وجعلوه فيما يبدو يراجع حساباته،
ليس في مصر فقط، ولكن في مناطق مختلفة في العالم.
ثم يأتى الدور على هولاند.. الرجل الذي
كان نجم حفل افتتاح قناة السويس، ووقف داعمًا لمصر من خلال تسهيل حصولها على صفقات
سلاح، عززت الموقف المصرى داخليا وخارجيا، هذا غير التزام الصحف الفرنسية بالخط الموضوعى
والحيادي في تغطيتها لما يحدث في مصر، فلم تكن أبدًا مصدرًا لشائعات أو تقولات أو أكاذيب
فيما يخص مصر، على عكس ما فعلته الصحافة البريطانية والأمريكية.
هل كان لا بد من تأديبه؟ بالطبع نعم.. كان لا بد من تأديبه، وهو ما سيبدو خلال الفترة المقبلة، فقد شغلوه هو الآخر بأموره
الداخلية، حتى لا يصبح رقمًا مؤثرًا في المعادلة العالمية، أو على الأقل يتحول دعمه
وتأييده لمصر إلى حالة من العداء الظاهر.
لست موهومًا بالطبع، فقد تقول إن العالم
لا يدور في فلك مصر بهذه الطريقة، سأقول لك: لم أقل شيئا من هذا، ولكن على الأقل، أنا
أقرأ الأحداث من الزاوية التي تخصنا هنا في مصر.
ثالثًا: ما حدث
في باريس ليلة الجمعة ١٣ نوفمبر ٢١٠٥، أكثر من عملية إرهابية، أثرها سيمتد كثيرا، وسيطال
معانى وقيمًا كثيرة، لقد ضربوا المدينة التي يعتز بها حتى الذين لم يدخلوها، فباريس
لها في القلوب وضع خاص جدا، فعلوا ذلك وهم يرددون شعار الإسلام «الله أكبر»، ذهبوا
هناك ليحققوا مصالحهم الخاصة، دون أن يدركوا أنهم وهم في طريقهم إلى تحقيق هذه المصالح،
يأتون على الأخضر واليابس فيما يخص الإسلام.
كان المجتمع الفرنسى تحديدًا قد بدأ يفهم
الفارق بين أن يكون الإسلام إرهابيا، وأن يكون المسلمون إرهابيين، بعد أحداث تشارلى
إبدو قالوا إنهم لا يمكن أن يدينوا الإسلام، فهناك من ينتمون إليه يعتنقون أفكارا متطرفة،
يمكن أن تقودهم إلى قتل نبى الإسلام نفسه لو بعث من جديد، لكن ليس معنى هذا أن الإسلام
نفسه إرهابى.
وصلنا إلى هذه النتيجة بعد سنوات طويلة
كان الإسلام فيها متهما ومستهدفا، لكننا اليوم نعود مرة أخرى إلى نفس النتيجة، ونفس
المكان، ولم يكن غريبا أن يتصدر «المسلمون الأوباش» كعنوان دال بالنسبة لأصحابه، الصفحة
الأولى من إحدى الصحف الإيطالية، فهذه صورتنا عندهم الآن، وسيكون من الصعب أن تتغير.
لست من هواة تغيير الصورة، فالغرب يرانا
كما يحب طبقًا لمصالحه، وليس بالصورة التي نحن عليها بالفعل، ولا يمكن أن يأمن لنا
أو يطمئن، والأزمة أننا قدمنا لهم مبررًا جديًدا للطعن فينا وفيما نعتقد.
عملية باريس ستتحول إلى لعنة تطارد الجميع، ليس المسلمين فقط، ولكن كل دول العالم، وإذا كانت النار قد اشتعلت في العاصمة الفرنسية اليوم، فليس بعيدًا أن تنتقل إلى العاصمة الإنجليزية، ومنها إلى عواصم العالم المختلفة.
لقد ربى الغرب الإرهاب في بيته، أواه ورعاه،
وقدم له الدعم التام، وحاول أن يصدره مرة أخرى إلى خارج حدوده، دون أن يدرى أن الوحش
الذي يربيه حتما سيقضى عليه.. إننا لا نملك شيئا نقدمه للعالم لا بالخير ولا بالشر،
وعليه فليس أمامنا إلا أن نجلس في مقاعد المتفرجين، ننتظر القادم الذي لن يكون في صالحنا
أبدا.. الذي تغير فقط أن صناع الإرهاب اعتقدوا أن نيرانه ستأكلنا نحن فقط، دون أن
يدركوا أنهم سيكونون الضحية إن لم يكن اليوم فغدًا.. والغد في كل الأحوال ليس بعيدًا.