وهكذا نثير دهشة القارئ بتشبثنا «بالمفتتح» الذي قال فيه جابر عصفور كل ما يريد قوله من عناوين أساسية.
ونقرأ وبعد أن أكد جابر المبدأ الأول الذي يتمسك به وهو الحرية بمعناها الاجتماعى والفردى، «المبدأ الثانى وهو خاص بالعقلانية التي تمتد من النظر في الكون بأسره والاعتبار بخلقه إلى المنهج العلمى الذي لا يحكم التفكير في المستقبل فحسب، وإنما يبدأ من مواجهة الحاضر والسعى إلى مواجهة تحدياته بالعلم لا الجهل والتخطيط وليس العشوائية، وبالعلاقة المتبادلة بين المجالات المعرفية وليس الانغلاق على مجال واحد لا معنى له دون تفاعله مع غيره، وهو أمر يفرض متابعة التقدم المذهل المتواصل والمتسارع في العلوم وما تلقيه متابعة هذا التقدم من واجبات، تبدأ من تثوير التعليم الذي هو قاطرة التقدم وشرطه الأول».
ثم بعد ذلك يضيف جابر عصفور مبدأ العدل الذي يرى أنه بالفعل أساس الحكم وأصل سيادة القانون في الدولة الحديثة، وأساس الفصل بين السلطات الثلاث ومعيار التوازن بينها، وذلك لتأسيس ما يراه عصفور عنصرا أساسيا لتمكين العدل، فيكون العدل في توزيع الناتج القومى هو الوجه الآخر من توزيع المعرفة وثمارها على المواطنين الذين هم متساوون في الحقوق والواجبات دون أي شكل من أشكال التمييز، فالتمييز جريمة ينبغى أن يحرمها الدستور ويجرمها القانون.
ثم هو يضيف بعد ذلك ما اسماه مبدأ النزعة الإنسانية وهو «المبدأ الذي أراه يبدأ من معنى المواطنة والوطنية على السواء».
ثم يفسر ما يعنيه قائلا: «هذا الانتماء للوطن وصلت به ثورة ١٩١٩ إلى ذروته، وجعلت منه أساس الوحدة الوطنية التي عبرت عن نفسها بتلازم الهلال والصليب فضلا عن شعار «الدين لله والوطن للجميع».
والواقع أن هذا الشعار قد صاغه دستور ١٩٢٣ وما تبعه من دساتير، بما يؤكد أن المواطنين هم أبناء الوطن الواحد الذي يعلو ولاؤهم له على أي ولاء آخر، وأنهم يمكن أن ينتسبوا إلى ديانات وعقائد متعددة، ولكن ولاءهم للوطن الذي ينتسبون إليه فوق كل ولاء» (ص١٢).
ثم ينتقل بعد ذلك إلى ما نحن فيه. يقفز بنا بعد أن يلقننا دروسه الملهمة فيقول «وكنا نأمل أن تأتى ثورة يناير بالحرية والعدل والكرامة الإنسانية، ولكن الثورة انقلب عليها من سرقها، ومن حطم أحلامها ولا يزال يمضى في تحطيمها وقمع أصحابها، وها نحن لا نزال نعيش في واقع استبدل بالحلم الكابوس ويتم إفراغ الدولة المدنية من محتواها، وتتشظى وحدة الأمة المصرية، وبعد أن كنا نتحدث عن وطن يحتضن كل الديانات بلا تمييز في حقوق المواطنة أصبحنا نتحدث عن وطن فقد محوره وضاع منه أمنه وشاع فيه التمييز بكل أنواعه واتجاهاته، خصوصا التمييز ضد المسيحيين وضد المرأة وضد المسلمين أنفسهم ممن يندرجون تحت مظلة التيارات المتأسلمة».
بعد هذه الكلمات التي تشبه مرثية لثورة ٢٥ يناير يعود جابر عصفور لينهض بنا فيصيح «لكن اليأس لن يعرف سبيلا إلينا فقد تعلمنا أن الليل له آخر، وأن مصر لا بد أن تشهد مشرق النور والعجائب، كما علمنا نجيب محفوظ» وبالفعل كانت ثورة ٣٠ يونيو.
ويقول «وعندما تحالف الشعب مع الجيش ليحرروا مصر من حكم جماعة أرادت أن تحكم مصر حكما استبداديا باسم دين سمح برىء من أفعالها، مقصية كل قوة سياسية خالفتها في سعيها لأخونة مصر». ثم يقول واثقا «وبقدر ثقتى في خارطة الطريق، وقدرة الشعب على حمايتها فكلى ثقة في أن الدولة المدنية في طريقها إلى التحقق مع حلم الاستقلال الوطنى الذي أصبح راسخا في وعى الثوار الذين أصبحوا يدركون أنه لا معنى لحريتهم الفردية إلا بحرية وطنهم كله» ثم يبشرنا «بالنجمين الوضاءين على الكفين: الحرية والعدالة».
وهكذا قال جابر عصفور كل شيء في «مفتتحه» للكتاب الموسوعى من ٤٦٤ صفحة. وسنواصل.