للفيلسوف الإيرانى المعروف "على شريعتى"، قول مأثور، هو أن على الباحث أن يسأل نفسه أولًا قبل أن يمسك بالقلم ويكتب فى أى عصر نعيش؟
وتطبيقًا لذلك أجيب - على المستوى العالمى لو شئنا الدقة - نحن نعيش عصر «ما بعد العولمة» بعد أن وصلت العولمة إلى منتهاها.
ولكن لو أردت الإجابة عن السؤال فى أى عصر نعيش فى مصر لقلت بدون تردد نحن نعيش فى عصر الهيافة والتفاهة !
وبيان ذلك أن المجتمع المصرى يمر الآن بمرحلة من التخبط الاجتماعى والثقافى لا سابقة لها، وخصوصًا بعد سيادة الغوغائية الإعلامية من ناحية، و«لوثة» التفاعل فى «الفيس بوك» من ناحية أخرى، والرغبة فى الحصول على شهرة زائفة من ناحية ثالثة !
أما عن الغوغائية الإعلامية فهى ترجع أساسًا إلى التأثير التخريبى لسلوك رجال الأعمال والذين اندفع كل واحد منهم، بحكم التراكم الرأسمالى اللا محدود، والذى فى غالبه الأعم تكون نتيجة الفساد والتواطؤ مع سلطات الدولة قبل ثورة ٢٥ يناير إلى إنشاء قناته التليفزيونية الخاصة.
ولا ننكر أن هذه القنوات لعبت دورًا إيجابيًا فى تطوير البرامج التليفزيونية وكذلك فى النقد السياسى، خصوصًا فى فترة حكم الإخوان المسلمين، غير أن وضعها الراهن وما تقدم من برامج «توك شو» تتسم فى أغلبها بالتفاهة، بالإضافة إلى البرامج التى تهدف إلى تخريب العقل المصرى بالترويج لموضوعات خرافية مثل السحر والعفاريت والجن، أو مناقشة مشكلات الجنس بطريقة مكشوفة.
ولا شك أن برامج «التوك شو» والتى يقدمها إعلاميون أغلبهم من أنصاف المتعلمين والأدعياء تؤدى دورًا سلبيًا للغاية، لأنها تنشر الإحباط واليأس بين الجماهير، وتمارس النقد السياسى بطريقة «البلطجة الإعلامية» وهذه للحق إضافة متدنية لفنون الإعلام!
و«البلطجى الإعلامى» يزعم أنه «شجيع السيما» ولا يخاف من أى سلطة وأنه يستطيع أن يتطاول على أصحاب المناصب العليا فى الدولة، بل إنه من حقه أن يستجوبهم على الهواء ويؤنبهم على تقصيرهم بالرغم من أنه قد يجهل جهلًا مطبقًا المشكلات التى يعرض لها.
وإذا أضفنا إلى ذلك الصراخ المدوى لبعض مقدمى هذه البرامج، والأوضاع الكوميدية لبعضهم الآخر فى مجال ما يرتدونه من ملابس، أو فى القيام بدور لاعبى السيرك حين يلبسون لكل حالة لبوسها، فذلك للحقيقة لا سابقة له فى عالم الإعلام !
وإذا أضفنا إلى هذه الأوبئة الإعلامية استخدام البذاءات، واحتراف الحديث بلغة الشارع فتلك وأيم الله كارثة إعلامية كبرى.
هذا عن الإعلام المرئى، أما عن الإعلام المقروء فحدث ولا حرج!
فبعض الكتاب الصحفيين المزعومين أمرهم من السهل على أى قارئ لبيب كشفهم غير أن هناك غيرهم من الكتاب الصحفيين الذين وصلوا بالصدفة إلى مواقع مؤثرة فى الصحافة الورقية مع أنهم يفتقدون إلى الموهبة ويعجزون عن الكتابة الحقيقية مع أنهم من حين إلى آخر لكى يقنعوا الناس أنهم كتاب صحفيون كبار يغامرون بكتابة مقالات تتسم بالضحالة الشديدة وأحيانا بالحماقة الفذة!
والدليل على ذلك أن أحدهم أراد أن «يبدع» فكتب مقالا شهيرا عنوانه «أنا صرصار»! ومع أن القراء استهجنوا المقال إلا أنه من باب العناد الأحمق كتب مرة أخرى لكى يؤكد على صحة أفكاره العبقرية!
وبعد فترة صمت ظهر علينا مؤخرا بمقال «بديع» آخر عنوانه «اعمل نفسك ميت»!
ولا يمكن لأمثالنا أن يعلقوا على مثل هذه المقالات الفذة!
ما سبق إشارات موجزة للغوغائية الإعلامية السائدة.
أما عن الانهيار الثقافى فتعبر عنه خير تعبير لوثة «الفيس بوك»!
الله يجازى اللى كان السبب! فقد اخترع مبتكر أمريكى «الفيس بوك» أساسا لكى يبحث الشخص عن زملائه القدامى فى المدرسة أو الجامعة، وإذا به يتحول بقدرة قادر فى مصر المحروسة إلى ميدان حافل بالهيافة!
تجد شخصا لا فى العير ولا فى النفير ينشر على الشبكة خواطره العبقرية سياسية كانت أو فكرية أو أدبية مع أنها كلام فارغ ومع ذلك يندفع أمثاله من «الهلافيت» لكى يعطوه آلاف «اللايكات» ولا ينسى بعضهم أن «يشيروا» هذا الإنتاج العبقرى حتى يستمتع الملايين بهيافته!
ووصل التدهور الثقافى إلى أن بعض «النصابين» فى الوسط الأدبى احترفوا إقامة مهرجانات وهمية لتكريم آلاف المبدعات والمبدعين المزعومين من الشباب الذى يرشحون أنفسهم فى «الفيس بوك»!
ألم نكن على حق حين قلنا إننا فى مصر المحروسة نعيش عصر التفاهة والهيافة؟