يبدو أن الطابور الخامس، قد عاد من جديد إلى هوايته المفضلة، الصيد فى الماء العكر، مستغلًا كارثة الطائرة الروسية المنكوبة، ومستبقًا، مثله مثل الأمريكان، جميع التحقيقات التى تجرى بمعرفة خبراء من أكثر من خمس دول، معلنًا أن هناك خللًا فى نظام الحكم فى مصر، يستوجب التوقف والتساؤل عند البعض، ويمضى عند آخرين إلى حد تقديم إجابات واجبة حول الأحوال الاقتصادية والاجتماعية والعملية السياسية برمتها فى البلاد، ويصل عند آخرين إلى حدوده القصوى حيث الرفض الكامل لهذا النظام الذى يطلقون عليه نظام حكم الجنرالات. وللأسف فإن مشكلة هؤلاء جميعًا، كانت وما زالت، هى عدم تصديق ما حدث فى 30 يونيو من رفض الشعب المصرى العظيم لحكم الجماعة الإرهابية، وما ترتب عليه من إزاحة الإخوان وحلفائهم عن السلطة والتمكين لنظام جديد، أتى برئيس ودستور، وفى طريقه لاستكمال المؤسسات الدستورية للدولة بانتهاء الانتخابات البرلمانية. فراح يولول تارة تحت زعم الحريات المفقودة، وأخرى تحت زعم الرفض الشعبى للنظام، ذلك الرفض الذى لا يوجد سوى فى خيالاتهم فقط.
انضم إلى تلك الجوقة بعض من مطاريد النظام، هؤلاء الذين عولوا على أن يكونوا يد ومخ السيسى فى الإعلام والشارع، ففوجئوا بأنفسهم خارج المشهد تمامًا، لأن الرجل كما قال وأكد فى أكثر من مناسبة، ليس مدينًا بفواتير لأحد سوى الشعب المصرى العظيم. هذا باختصار هو المشهد الراهن، محاولة للصيد فى الماء العكر من قبل الطابور الخامس، ومن لحق بهم من مطاريد النظام.
طبيعة المعركة
وقد سبق وتحدثت فى هذا المكان منذ شهور فى مقال بعنوان «المؤامرة الكبرى» عن طبيعة المعركة مع الأمريكان وحلفائهم، وأشرت إلى خطتهم لإسقاط مصر التى دشنوها مع الاتحاد الأوروبى فى أغسطس 2013، وقلت إن هذه الخطة لن تتوقف إلا بعد نجاح واشنطن، فى تقسيم مصر إلى دويلات وتفتيت جيشها لصالح إسرائيل الكبرى، وشرحت كيف أن هذه الخطة تعمل فى الداخل من خلال جناحين الأول: هم الإخوان وحلفاؤهم من الجماعات الإرهابية، والثاني: مجموعة من السياسيين كان فى مقدمتهم البرادعى وأصدقاؤه، هؤلاء الذين ما زالوا يؤمنون بأن واشنطن هى الآمر الناهى فى العالم الآن، وأنها دائمًا ما تنجح فى تحقيق ما تريد، وأن أحدًا لن يستطيع أن يقف فى وجه مخططاتها.
قلت: إن المعركة مع ذلك التحالف الأمريكى، تدار، على ثلاثة محاور رئيسية: الأول دحر الإرهاب متمثلًا فى جماعة الإخوان وحلفائها، من خلال القضاء على جميع بؤره فى سيناء وغيرها من الأماكن التى ينشط فيها، والثانى تحقيق الوحدة بين الشعب والجيش للتصدى بحزم لجميع المخططات الشيطانية للجناح الثانى، وأخيرا إفشال خطة الفوضى الأمريكية، أو محاولات رجال أمريكا إعادة عقارب الساعة فى مصر للمربع رقم واحد، عبر السعى نحو شراء الأحزاب والأفراد وتمويلهم فى الانتخابات البرلمانية القادمة، فى محاولة لخلق قوى موازية فى البرلمان تنازع مركز السلطة فى مؤسسة الرئاسة القرار، لتفشل مشروعه، وتعيدنا إلى نقطة البداية.
اعتبر البعض كلامى هذا رسائل مشفرة موجهة إلى أناس بعينهم، فى إطار معارك وهمية تتحدث عن أمريكا وحلفائها انطلاقًا من مفهوم «المؤامرة» التى لا توجد سوى فى رؤوسنا.
وكتب أحدهم مقالًا فى المصرى اليوم: بعنوان: فى انتظار سايكس بيكو 2014، حاول فيه أن يقنعنا بأن ما يحدث بعيد عن روح المؤامرة التى تسكننا منذ عصور سحيقة، مشددًا على أنه «فى أجواء أقرب لدراما المؤامرة ــ الأكثر رواجًا فى دنيا السياسة والرواية ــ نستطيع أن نتخيل منذ قرابة مائة عام مضت.. وتحديدًا ما بين نوفمبر 1915 ومايو 1916.. يجلس سير مارك «سايكس» والسيد فرنسوا «بيكو» ــ وهما دبلوماسيان أوروبيان ــ فى غرفة ذات إضاءة خافتة تشى بالمؤامرة ليعمل السيدان «سايكس وبيكو» أقلامهما فى خريطة المنطقة العربية، من أجل أن ترث الإمبراطوريات البريطانية والفرنسية والروسية ــ جميعًا ــ الإمبراطورية العثمانية «رجل أوروبا المريض» الذى بات موته مؤكدًا فى الحرب العالمية الأولى.. وليصبح العالم العربى مقسمًا بين الانتداب والاحتلال وفقًا لمؤتمر سان ريمو عام 1920».
ثم يضيف بلغة حاسمة قاطعة: «كانت تلك من دراما الماضى.. فماذا عن دراما الحاضر؟!».
ويواصل: «حاضرنا يقول إننا الآن ــ نحن والعالم ــ فى لحظة فارقة من التاريخ.. ليست ــ كما تبدو ــ لحظة تغيير جذرى للخرائط الجيوسياسية فى المنطقة العربية فقط.. ولكنها لحظة يعاد فيها طرح فلسفة مؤسسات العصور التى سبقت للنقد والنقض.. بما فيها فلسفة الدولة ذاتها..!».
وبينما رحنا نبحث عن إجابة للسؤال الأساسي: لماذا النظر فى فلسفة الدولة فى عالمنا العربى فقط، دون العالم المتقدم، وبالتحديد الولايات المتحدة الأمريكية، عاجلنا صاحبنا بعلامات استفهام جديدة، حين راح يؤكد أن: «هيكل عالمنا المقبل لا يستطيع أحد القطع به ــ حتى الآن ــ لأنه يتشكل من واقع أقرب إلى الواقع الكونى الملىء بالانفجارات غير المستقرة.. التى تنتهى إلى تشكيل نهائى للأجرام بواقع قوى الجاذبية الكونية والتى بدونها لم يكن ليتشكل كون ولا أجرام..!».
«واقع موارد الاقتصاد فيه هى «المعرفة».. والحرب فيه ميادينها «العقول» قبل الجغرافيا.. فما بين صدامات سياسية فى العالم العربى وفى أوكرانيا وفى أفغانستان وما حولها.. وبين نشوء وأفول وانهيارات اقتصادية.. ستكون قوى الجاذبية الجيوسياسية التى سيتشكل على إثرها النظام العالمى الجديد هى عبارة عن عدة أطروحات لدول وأقاليم بعينها..!».
صاحبنا هنا لا يقر بوجود اتفاقات إذن بين أقطاب يشكلون عالم اليوم القوى عبر تحالف تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، ولا مخططات تشرف عليها أجهزة استخبارات دولية، مشهود لها طوال سنوات عديدة، برسم خيوط المؤامرة تلو الأخرى فى جميع أنحاء العالم، وإنما محض تحرك عنيف لقوى الجاذبية الجيوسياسية سيتشكل على إثره عوالم لدول وأقاليم جديدة!!.
هذا ما يريدنا أبناء أمريكا، أو الطابور الخامس فى مصر، أن نعتقده ونؤمن به، ثم نتوكل عليهم كعقول تعرف وتعى ما يدار وما يدور حولهم، باعتباره معركة لتغيير واقع، موارد الاقتصاد فيه هى «المعرفة».. والحرب فيه ميادينها «العقول» قبل الجغرافيا.
الغريب أنه وعلى نفس المنوال نسج آخر من أبناء هذه المدرسة، فى مقال نشره فى جريدة الشروق، تحت عنوان «لماذا لا تجرون الخط على استقامته؟» خاطب فيه كاتبه مجهولين لم يحددهم، فلا هو حدد رجال الحكم ولا هو حدد نخبة بعينها، قائلا: «استدعيتم المؤسسة العسكرية إلى السياسة، وصنعتم من المطلب الديمقراطى الذى حمله الناس فى ٣٠ يونيو ٢٠١٣ «الانتخابات الرئاسية المبكرة» انقلابًا كاملًا على الإجراءات الديمقراطية فى ٣ يوليو ٢٠١٣».
«تصدرتم المجال العام وانتهاكات الحقوق والحريات تتراكم والعصف بحكم القانون يتصاعد، واستخدام القوة المفرطة فى فض الاعتصامات والتظاهرات يخلف قتلى وجرحى تنكرهم التقارير الرسمية، فصمتم وتجاهلتم».
«تركتم «طيور ظلام المرحلة» تغيب المعلومة والحقيقة وتغتال العقل، وتروج لفاشية التخوين والتشويه والإقصاء بسبب المبدأ والرأى والموقف والانتماء الفكرى ـ السياسى، وتخلط بين المتورطين فى الإرهاب والعنف وبين المعارضين السلميين لحكم ـ سلطة ما بعد ٣ يوليو ٢٠١٣ دفاعًا عن الديمقراطية والحقوق والحريات، وتبرر باسم «مدنية وتحضر» - هما من طيور الظلام براء - لنزع الإنسانية عن عموم المنتمين لجماعة الإخوان المسلمين ولعقابهم جماعيًا بأدوات القمع المختلفة».
«تابعتم هيمنة المكون العسكري ـ الأمنى على شئون الحكم ـ السلطة، وتراجع استقلالية وأدوار مؤسسات الدولة غير العسكرية وغير الأمنية، وانهيار أهمية النخب الحزبية والسياسية التى تحولت إلى مجموعات مستتبعة إن من قبل الحكم أو من قبل المصالح الاقتصادية والمالية المتحالفة معه، وتجديد دماء صناعات الاستبداد التقليدية بالترويج لحكم الفرد كبطل منقذ ـ مخلص وبنشر الخوف بين الناس من «أعداء» الداخل والخارج وطوابير من ألصقت بهم إفكًا وزيفًا نوايا وصفات المتآمرين».
الغريب أن تأتى افتتاحية النيويورك تايمز بعدها بأيام، لتؤكد بنفس الروح وربما لا أغالى إذا قلت بنفس المفردات تقريبًا، ما ذهب إليه الكاتبان، فقد عنونت الافتتاحية بعنوان: «آن الأوان ليدرك العسكر المصرى حقيقته». شرح فيها كاتباها كيف أنه «ومنذ سيطر عبد الفتاح السيسى على مصر عبر انقلاب فى يوليو 2013 عادت البلاد لماضيها التسلطى، بما فى ذلك اعتقال الخصوم السياسيين وإخراس الناقدين وتشويه الإسلاميين السلميين».
هكذا تحول الإرهابيون الذين قتلوا وسحلوا الضباط فى كرداسة والمنيا والفيوم وبنى سويف وسيناء والدقهلية والشرقية والإسماعيلية والفرافرة، عند صاحبنا وكتاب افتتاحية النيويورك تايمز إلى إسلاميين سلميين!!
ويواصل كاتبا الافتتاحية طرح وجهة نظريهما قائلين: «مصر اليوم أكثر قمعية فى نواحٍ كثيرة مما كانت فى أحلك فترات حكم المتسلط المخلوع حسنى مبارك. فقد قمعت حكومة السيسى المظاهرات وشددت القيود على وسائل الإعلام الحكومية واضطهدت الصحفيين».
الغريب أن كاتبى الافتتاحية لم يشيرا إلى ماهية الصحفيين الذين تم قمعهم فى عصر السيسى، إلا إذا كان اعتبار عملية القبض على صحفى أجنبى كان يقوم بعمليات تجسس لصالح بلد أجنبى وتقديمه إلى المحاكمة هو من قبيل العصف بحرية التعبير، ولم تقف الافتتاحية الملعونة عند هذا الحد، وإنما امتدت للحديث عن الإرهاب فى سيناء، والمدهش أنهم يتحدثون عما يحدث من حرب ضروس ضد إرهاب أعمى، باعتبارها حربًا يشنها الجيش المصرى ضد مناطق آهلة بالسكان، وقصف لمناطق مدنية.
هل رأينا زيغ فى وجهات النظر وتنطع فى الرؤى، ولغة منحطة تفوق تلك اللغة، لقد قتل الأمريكان مليون طفل عراقى، لقوا حتفهم تحت الأنقاض التى كانت تخلفها القنابل العنقودية الأمريكية، تلك التى كانت تلقى بدون أية إحداثيات، على مدن العراق المختلفة. ومثل ذلك فعلوا فى أفغانستان ضد الأطفال والنساء والمدنيين، وفى غزة، حدث ولا حرج، فقد استخدم الإسرائيليون السلاح الأمريكى فى قصف الأطفال والنساء على مرأى ومسمع من العالم كله، وليس رجال أمريكا وكُتّابها فقط، ولم نسمع واحدًا من هؤلاء يرفع عقيرته بكلمة نقد موضوعية واحدة ضد ما تفعله الإدارة الأمريكية ولا حليفتها إسرائيل، من مذابح.
ولم تكتف النيويورك تايمز الأمريكية، فى تلك الافتتاحية، بل وصفت الانتخابات التى جاءت بالسيسى رئيسًا للبلاد «بالمزورة».
هكذا وصل الخطاب الأمريكى المحرض ضد مصر ورئيسها المنتخب بأغلبية ساحقة، تعلم أمريكا قبل غيرها، ولديها مصادرها المتنوعة للمعلومات، أنها كانت أنزه انتخابات شهدتها مصر، ليست كتلك التى ساعدت واشنطن فى تزويرها ليفوز رجلها مرسى من قبل فى يوليو 2012، عندما أصرت مندوبتهم فى مصر على اعتماد النتيجة التى أعلنها الإخوان بليل، ولم يكن قد مضى على غلق صناديق الاقتراع سوى سويعات قليلة، وقبل انتهاء عمليات الفرز فى اللجان الفرعية، ناهيك عن اللجان العامة.
هكذا كانت وما زالت رؤية الإدارة الأمريكية وحلفائها لما جرى فى بلادنا طوال سنوات ما بعد حكم الإخوان، وستظل تلك الإدارة وحلفاؤها من الإنجليز والغرب، تحاول المرة تلو الأخرى النيل منا ومن تماسكنا، تارة بشكل مباشر عبر كتابها وسياسييها الأمريكان والغربيين، وأخرى عن طريق عملائها فى مصر. لكننا نعدهم أن نظل موحدين ضد المؤامرة الأمريكية، لن يهدأ لنا بال إلا عند اندحارها كاملة على أيدينا وأيدى المؤمنين بوجودها، شاء من شاء وأبى من أبى، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله.