قبل أن أتخرج بأيام جاء زميل لى من دفعة التمثيل هو محمد عبدالحليم، وطلب منى أن أختار مقاطع من أربع مسرحيات لسوفكليس وشكسبير وموليير ويونسكو، وأن أجد صلة تربط هذه المشاهد معًا وفى إطار كوميدى ما أمكننى، فاعتذرت، لأن وقتى ضيق بسبب الامتحانات وجماعة رشدى يتربصون بى.
لكنه ألح بشدة، وكانت الفكرة طموحة، وشكيت أن ينجح بها. ولكننى جلست أكتبها فى وقت قليل للغاية، ووضعت فيها شخصيته الحقيقية وهو يخوض الامتحان، فيتنقل من دور لآخر، وبجانبه شخصية طالب آخر يحذره خوفا من سقوطه فى الامتحان، ولما جاء ليأخذ النص سألته مَن سيمثل الشخصية الأخرى؟ فقال إنه زميله بالدفعة محمد صبحى، فنبهته أن الدور الذى سيؤديه صبحى أكثر إضحاكا من دوره، بحكم ما كتبته ونصحته بعدم تقديم العمل، لكنه ابتسم بغرور الممثلين.
وأخرج له المشهد المعيد «هانى مطاوع» وقتها، وساعده فى التمثيل كالعادة طلبة من دفعته منهم «لطفى لبيب»، ومن دفعة أخرى يونس شلبى، وأحمد زكى، وحضرت إحدى البروفات ومعى زميلتى فاطمة المعدول، ولكننى لم أخبر غيرها أننى الذى عالجت هذه النصوص الأربعة، وكتبت المواقف التى أدخلتها على هذه الأعمال.
كان يوم العرض على المسرح القومى هو آخر امتحان لممثلنا والبعض يشاهده واقفا، إذ جاءوا ليشهدوا هذا الحدث الذى أقدم عليه عبدالحليم الذى كان يمثل مع صبحى ثنائى كوميدى خلال سنوات الدراسة، وبمشقة حصلت على بنوار علوى بدفع بقشيش لأفوز به، كان الجمهور من طلبة المعهد وغيرهم يضحكون بقوة، لكن على الدور الذى يمثله صبحى والآخرون، وليس صاحب المشهد كما تنبأت، ولم يسمع نصيحتى بأن ينسى الفكرة، وكان قد أذيع قبل العرض من البداية أن المشهد من تأليفه وتمثيله، رغم أنه لم يؤلف ولن يحاسب على التأليف! وفى نهاية العرض أرادت زميلتى فاطمة أن تفضح عبدالحليم أمام الجميع بأنه ليس من كتب المعالجة، لكننى ضغطت عليها حتى لا تتكلم، وقلت إن العرض ليوم واحد، لكنه بسبب هذا الادعاء سيجعله يخسرنى بقية العمر، ومن وقتها تعودت أن ينسب كثير من الممثلين كل شىء إليهم، ويوحون أن الحوار الجارى وأحيانا المواقف نفسها من تأليفهم، وحتى اليوم كثيرا ما أسمع بعض المذيعين ومقدمى البرامج التليفزيونية يذكرون جملا من مسرحياتى فيقولون، وعلى رأى الممثل الفلانى الذى قال ثم يذكر جملة من جمل كتبتها فى أعمالى مثل «الشوف مش نظر. الشوف الحقيقى وجهة نظر»! بالطبع لا يقولون فى الخارج إن السير لورانس أوليفيه الذى برع فى تمثيل أعمال شكسيبر، وعلى رأى أوليفيه عندما قال: «أكون أو لا أكون تلك هى المشكلة»! ولم أصادف أحدا من الممثلين يقول إنه مثّل هذه الجملة ولم يكتبها أو يختلقها، إلا نادرا، فما العيب الذى وقع فيه ممثلنا الناشئ إذن؟!
كنت قد شاهدت صبحى قبلها بيومين يمتحن بمشاهد من «هاملت» فأعجبنى أنه مثّل التراجيدى والكوميدى بشكل لا بأس به، ولم يكن قد زارنى فى البيت مثل كثيرين، فدعوته لمنزلى بعد يومين، وكنت قد كتبت ثلاث مسرحيات تجريبية هى «الكابوس» و«العار» و«الرأس»، كتبتها منذ سنتين، ومزجت فيها بين الكوميديا العبثية والتراجيديا، ورأيت تقديمها معا فى عرض واحد باسم «العنكبوت والذبابة»، ولما قرأت له النصوص تحمس للغاية ووافقنى على تقديمها، وفكر أن يعرضها على واجهة وسلالم المعهد، ولكن أصبحت المشكلة ما الجهة التى تقدم على إنتاج مثل هذا العمل التجريبى؟ فقد رفض رشاد رشدى عرض المسرحية لى فى معهده الخاص، والذى رفض أن أعمل كعميد مؤقت كصبحى، ولكنه وافق أن يقدم صبحى مسرحية «هاملت» بواسطة الطلبة والهواة، وقد لجأ صبحى إلىّ كى أدمج مشهدين فى المسرحية خلسة فى مشهد واحد، لأن المسرحية طويلة، ولكن بطريقة لا تكون غريبة عن أسلوب شكسبير، وقد فعلت ذلك، ولم يلحظ الفرق الجمهور حتى المثقف منهم!
وكنت قد تقدمت بأوراقى للدراسات العليا، ولكنهم أسقطونى عن عمد، وكان هذا طبيعيا، ورشاد رشدى له باع فى الأكاديمية، وقلت لنفسى إننى لم أخسر شيئا، بل ربما أن هذا كان سيشغلنى عما هو أهم، ورحت أبحث عن وظيفة لحين أن نستقر فى عمل، فقصدت محمود أمين العالم الذى كان يرأس مؤسسة المسرح فوعدنى بذلك، لكنه طلب منى أن أكتب تقريرا عن معهد الفنون المسرحية، ولما كنت قد كونت فيها رأيا واضحا من قبل، فقد كتبته وأرسلته إليه، ولكنه تجاهلنى بعدها لمرات، وباختصار تهرب منى، ربما خوفا من زعيم الحزب الشيوعى السابق أن يتهم بالشيوعية بسببى!