السبت 21 سبتمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

العم.. نجيب سرور

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
عرفته فى السنوات العاصفة.. كان لون بشرته حائلا ما يعطى إحساسا بأنه مريض بشىء ما، وكنا فى ضيافة الشاعر الكبير الراحل محمد مهران السيد، فلما هم بالنهوض نظر إلى متسائلا: «إنت رايح ريش»، فقلت: «أروح ريش عشانك» قال: «أحتاج أن أستند على أحد» فقلت: «أشيلك على راسى يا عمنا»، فابتسم بشحوب مرهق، وقال: «إذن هيا».
نزلنا من مقر المجلة الشهرية الذى يقع فى الجزء الأخير من شارع قصر العينى، و«أخذناها» مشيا، وفى الطريق سألنى: «أتحفظ شعرك؟»، قلت: «قليلا»، فقال: «أسمعنى بعضه»، ففعلت، وكان يتلقى ما أقول بابتسامة طيبة، ثم أبدى بعض ملاحظات عابرة حول الصور الشعرية الغامضة و«أمرنى» بعدم الإيغال فى الغموض، لأن الفداحة التى نعيشها واضحة وضوح البيادة الصهيونية، ثم سألته فجأة عن مرضه فرد: «أنا مريض بحب مصر».
عرف يومها أننى سأسافر ليلا إلى الإسكندرية، حيث كنت وقتها لا أزال طالبا فى آداب الإسكندرية، وكنت أزور القاهرة مرة أو مرتين فى الشهر لتحصيل «الغلة» التى تعنى مكافآت النشر فى عدة مجلات، منها الثقافة والكاتب والموقف العربى، إضافة إلى مقابلة بعض مراسلى الصفحات الثقافية لجرائد عربية، منها الجمهورية العراقية، والوطن الكويتية، وكانت «الغلة» عادة لا تزيد عن جنيهات معدودة، فقد كانت مكافأة القصيدة حوالى خمسة جنيهات مصرية وثلاثين جنيها عربيا.
بعد ذلك تعددت اللقاءات بيننا كلما زرت القاهرة على مقهى ريش، وكنت حريصا على ذلك ليس لسعادتى بصداقته، ولكن لأتعلم منه شيئا جديدا أهضمه وأضمه لما أحرص عليه من دروس حياتية فى اللاوعى، والرجل كان مدرسة «تجارب» تمشى على قدمين، ولا أنسى درسا مهما وغير مسبوق علمنيه على المقهى، فقد كنت فى طريقى لمقر مجلة «الكاتب» التى أعدمها السادات أوائل ١٩٨٠ للقاء الناقد الكبير «على شلش» الذى كان يشرف عليها وقتذاك لأقدم إليه دراسة نقدية عنوانها «المستويات الفنية فى ديوان (لزوم ما يلزم) للشاعر نجيب سرور»، وكان شلش قد أوعز لسكرتارية المجلة بأنه سيصل متأخرا هذا المساء، فذهبت إلى ريش، وكانت المسافة بينهما قريبة، ووجدت عم نجيب كما اعتدت أن أناديه، وجلست على مائدته فقال لى: «اطلب ما تريد لأننى ثرى الليلة»، فقلت مداعبا: «ومن أين لك هذا يا عمنا»، فرد: «النقاش نشر لى دراسة عن المسرح فى الدوحة وأرسل لى اليوم المكافأة بالدولار»، ثم سألنى: «شفت قريبك مدبولى»، فقلت: «سلمت عليه منذ قليل»، فقال: «اترك حاجياتك واذهب وقل له إن نجيب سرور يريد ثلاثين نسخة من الرباعيات»، ففعلت واستطعت «محايلة» الحاج محمد حتى انتزعت منه عشر نسخ، بعد أن كان رافضا بشدة باعتبار أن نجيب «خلص» حقه، وهرولت إلى ريش وأنا أمنى النفس بنسخة «إهداء» وزجاجة بيرة كنت طلبتها من عم «ملك»، وما إن رآنى حتى انفجرت ثورته العارمة: «إيه اللى إنت كاتبه ده؟ إنت بتنتقدنى يا ولد؟»، فقلت بهدوء: «ده فى سياق الدراسة»، فرد: «شيل الكلام فورا»، وازداد حنقا وأنا رافض، ولأول مرة أقول له: «مش من حقك تفتش فى أوراقى»، لكن ثورته كانت عارمة وأحدث صوته العالى ضجيجا هائلا فى المكان، لكنه هدأ فجأة، وجلس ثم نظر لى بوداعة وهو يقول: «إنت واقف ليه يا صعيدى؟»، فجلست مندهشا لأجده ينادى عم ملك ويسأله: «أنا مش طلبت واحد بيرة للجدع ده.. هاتها؟»، فلما رآنى مندهشا قال لى: «عارف أنا عازمك ليه.. عشان تمسكت بموقفك ولم ترضخ للتهديد»، ولم يتكلم بعدها عن الدراسة التى نشرت كما هى فى عدد يوليو ١٩٧٩ أى بعد وفاته، وضممتها لكتابى الأول «قراءات فى الشعر المعاصر ملامح نقدية» الذى صدر عن هيئة الكتاب عام ١٩٨٥ باعتبارها «وفاء من جيل وثقافة أمة».
الدرس كان بليغا، وجعلته أمامى فى أى موقف، بل دفعت ثمنه بعد ذلك فى عدة مواقف حياتية، إضافة إلى تأثرى البالغ برباعياته التى لا أنسى منها:
لم أقف يوما بأعتاب الملوك
لم أكن يوما بركبٍ.. ببغاء
ليس لى أيُّ رصيدٍ بالبنوك
فأنا لم أحترف قطّ.. البغاء
وفى الرابع والعشرين من أغسطس ١٩٧٨، أسلم نجيب سرور الروح عن ٤٦ عاما فى منزل شقيقه ثروت بمدينة دمنهور، بعد أن ذهب إليه قبلها بشهر واحد، مخافة أن يموت وحيدا فى شقته التى كانت مطلة على ترعة المريوطية بالهرم، وأن لا يعرف أحد بوفاته، وفى ذكراه السابعة والثلاثين تهتاج الذكريات وتدمع العين على شاعر «كان جدعا أيّ جدع / شاربا من بزّ أمه»، أحدث نقلة نوعية فى كتابة النص المسرحى عبر نصوصه الخالدة «بهية وياسين» و«منين أجيب ناس»، ثم دواوينه الشعرية الفارقة، ومنها «بروتوكولات حكماء ريش» و«لزوم ما يلزم» و«رباعيات نجيب سرور»..
رحم الله شاعرا كان يغرد خارج السرب، وكان يرفض أن يكون ثورا فى القطيع، والعزاء موصول لزوجته ساشا كورساكوفا إذا كانت حية ولابنيه شهدى وفريد إن كانا لا يزالان يتذكرانه..