الطريق إلى المرحلة الثانية من الانتخابات البرلمانية المصرية (٢٢-٢٣ نوفمبر المقبل) ملىء - فى واقع الأمر - بمخاطر ينبغى التحسب لها والاحتراز منها، ولكنني - بيقين - أرى أن الإعلام المصرى والعديد من نجوم المرحلة من السياسيين يسهمون - بحماقة وجهل بالغين - فى دفع البلد نحو التورط فى تجاهل تلك المخاطر، والغرق فى جو من الفرح الافتراضى والمبالغة فى توصيف ما جرى فى المرحلة الأولى من الانتخابات.
إذ هناك اندفاع هوسى فى الاحتفال بهزيمة الإخوان الإرهابيين وحزب النور السلفى يصور أن ما جرى هو انتصار نهائى على تلك القوى الرجعية المتخلفة، وخطورة ذلك اللون من الطروح أنه يدفع المجتمع المصرى إلى الاسترخاء فى مواجهته معهم، فيما نحن فى حالة حرب بالنار والسلاح وبالأفكار والعقول لا ينبغى لها أن تهدأ إلا بعد حسمها على نحو قاطع.
ثم إن هذا المنهج الاحتفالى الهبيل يدفع الناس إلى التساهل فى نزولهم إلى انتخابات المرحلة الثانية، فما دام الانتصار تحقق فى المرحلة الأولى فإن دواعى التعبئة من أجل النزول فى المرحلة الثانية انتهت.
وهذا كله، فضلًا عن أن الاندفاع فى التهليل لما ترتب على المرحلة الأولى من نتائج، يصرف النظر، ويؤدى إلى التشاغل عن ضعف الإقبال التصويتى وهو (كارثي) بكل المعانى، وينبغى تحليله وتفسيره.
إذ كان عدم الإقبال على التصويت فيما قبل عملية يناير ٢٠١١، لعدد من الأسباب والعوامل مثل إحساس الناخب بأن إرادته ستتعرض للتزوير فى نهاية النهار، كما أن غياب المعارضة (التى كانت تنسحب أو تقاطع فى معظم الحالات) أفقد الانتخابات منطق التنافس بين قوى متضادة المصالح والاتجاهات حتى لو كانت المعارضة (وهى ما زالت) هزيلة وضعيفة ولا وجود لها فى الشارع أو فى ضمائر الناس.
ثم إن الانتخابات فيما قبل ٢٠١١ لم تكن مصيرية.. بمعنى أن اختيار برلمان وقتها لم يكن جزءا من خارطة طريق يراقب المجتمع الدولى تنفيذنا لها بدقة، ويرهن مساعداته أو حتى تعاملاته معنا على أساسها، ولم يكن عنصرا من عناصر استكمال مؤسسات دولة (تشرعن) لثورة كما نحن فى حالة مجلس النواب المقبل وثورة ٣٠ يونيو.
كما لم تكن الانتخابات المصرية قبل ٢٠١١ فى ظل نمو حقيقى للوعى والإدراك الشعبيين وعمليات تعليم سياسى متواصلة لمدة خمس سنوات (أيا كانت اتجاهات ذلك التعليم السياسى وقلة منهجيته).
وأخيرا فإن (عادة) النزول إلى الانتخابات لم تكن تأصلت أو تجذرت فى نفوس الناخبين، كما هو الحال الآن.
وبناء على كل ما سبق ولانتفاء كل تلك العناصر فى معطيات اللحظة الراهنة، فقد اعتبرت عدم النزول إلى المرحلة الأولى من الانتخابات البرلمانية الحالية كارثيًا، ومن هنا - كذلك - فإننى أخشى أن يكون الفرح الافتراضى والاحتفال الهوسى بنتائج المرحلة الأولى وسيلة اتبعها الإعلام الجاهل وبعض نجوم ورموز المرحلة من السياسيين للتغطية على ذلك العوار التصويتى ومحاولة تفسيره وفك تشفيره.
كما أن من أخطر الأمور ما حاول به بعض الخمسة وعشرين يناير (الذين يسيطرون على المشهد العام ومفاصل المؤسسات السياسية والإعلامية الحاكمة) أن يفسروا به ظاهرة الإحجام التصويتى من أنه جاء لأن هناك من أهان ٢٥ يناير أو رموزها؟!!
أى رموز؟!!
هل كان كشف التورط المخجل فى مخطط هدم الدولة من سوكة وسومة ودومة وأسماء وإسراء وعلاء وسناء هو إهانة لما يسمونه (رموز يناير)؟!
هل كانت إذاعة وإفشاء وثائق التمويل وأسطوانات المحادثات التليفونية الجاسوسة والعميلة لكل العناصر التى حركها ١٦ جهاز مخابرات دوليًا فى ميدان التحرير هى جرح لشعور رموز تلك الفترة؟!
كفى استعبادا لمصر وابتزازا للدولة باسم حكاية يناير، فأنتم لا تملكون أرضية فى الشارع تحركونها أو تدفعونها إلى الامتناع الاحتجاجى عن التصويت.
وقد بلغ من زيف وحقارة الذرائع التى يسوقها البعض لضعف الإقبال على التصويت أن قالوا (قبل ظهور النتائج) إن قيام الدكتور عبدالرحيم على بإذاعة التسجيلات بما أحدثته من صدمة (يدعونها) لدى الرأى العام أدت لانصراف الناس عن التصويت، فلما جاءت لحظة الحقيقة وأزفت، وأعلنت النتائج ظهر أن الدكتور عبدالرحيم اكتسح دائرته تصويتيًا وفاز من الجولة الأولى، يعنى الناس - حتى مع عدم إقبالهم - صوتوا لصالح الرجل ولصالح خطابه السياسى والإعلامى (رغم محاولة البعض حصاره) وكانت عملية إذاعة التسجيلات، واحدة من أهم أركانه، تنتصر لحق الناس فى المعرفة وتحدد - بدقة بالغة - الأعداء الحقيقيين للوطن، وتنهى الكثير جدًا من الأساطير التى شاعت وذاعت عن بعض الساقطين فى زمن يناير وقبل اندلاع ثورة ٣٠ يونيو العظمى التى كان ذلك الإعلامى (عبدالرحيم علي) واحدًا من رموزها.
كل ذلك لا ينبغى أن يصرفنا عن تواضع قدرتنا على الحشد، وانصراف إعلامنا وصحافتنا (الخاصة والقومية) إلى قضايا خائبة من دون إفشاء تيار وعى حقيقى لدى الناس بالأسباب التى تحتم نزولهم إلى الانتخابات، وتشاغل كوكبة الإعلاميين والصحفيين الجدد ببناء صروح من النجومية الشخصية ومنظومات جبارة التركيب من المصالح والارتباطات، وهو الأمر الذى أدى إلى عدم قيامهم بواجب توعية الناس بضرورة النزول إلى الانتخابات، وشرح النظام الانتخابى الصعب لهم.
وهذا ما ينبغى علينا عدم السماح بتكراره فى المرحلة الثانية.
معركتنا مع الإرهاب والإخوان والسلفيين لم تنته بعد.
وحربنا ضد كتائب التعبير السياسى والمخابراتى عن الغزو المسلح الذى تعرضنا له فى عملية يناير من المحتم استمرارها، حتى لو ارتدى أفرادها أقنعة الطابور الخامس ودفسوا أنفسهم فى كل مؤسسات وأوعية وهياكل الدولة.
وبناء (مصر الجديدة) هو هدف سيتأكد مدى إصرارنا عليه من خلال حجم واتجاه التصويت فى المرحلة الثانية من الانتخابات البرلمانية.
وتعديل الدستور غاية ينبغى عدم الخجل من إعلانها، ولن تتحقق إلا ببرلمان تهيمن على أغلبيته العناصر الوطنية (رجال ٣٠ يونيو)، ولا ينبغى أن نخضع فى ذلك لإرهاب الفزاعات التى ترفعها فى وجوهنا بعض شخصيات تحاول تأسيس قدسية لذلك الدستور الذى ذهب الناس للاستفتاء عليه بناء على طلب السيسى من دون إدراك لمضمونه، وقد كان القائد يريد الوصول إلى لحظة تنفيذ الاستحقاق الثانى بأى ثمن حتى لو كان قبوله لدستور ملىء بالفخاخ.
مسألة تعديل الدستور هى إحدى الغايات الملحة لفرض إرادة وطنية فى البرلمان الجديد من خلال الانتخابات المقبلة، وهى إن كانت هدفًا مستترًا فإنها موجودة وتفرض نزولنا للضرورة الوطنية القصوي.