عندى مشكلة في تذوق الشعر، مثل معظم الناس على ما أعتقد.
الشعر فن مراوغ، يكاد يقترب من الموسيقى في سموها ونقائها، ووصولها إلى المشاعر والوجدان مباشرة، ولكنه لا يملك بساطتها وسهولتها على الأذن.
لغة الموسيقى عالمية، بينما الشعر أكثر الفنون ارتباطًا باللغة الكلامية، وكلما كانت لغتك نادرة وصعبة التعلم، كلما تقلص جمهورك كشاعر.
وبينما يمكن ترجمة النثر بسهولة نسبية، يصعب ترجمة الشعر، بل تصبح هذه الترجمة مستحيلة أحيانًا.
الشعر هو أقدم الفنون، بعد الموسيقى، ولكن بينما تنتشر الموسيقى حولنا وتلاحقنا في كل مكان، سواء شئنا أم أبينا، فإن الشعر تتراجع شعبيته حتى كاد يختفى من حياة الناس.
الشعر كان فن العرب الأول لقرون طويلة، ولكن للأسف معظم التراث الضخم الذي تركوه لنا لم يعد مفهوما لدى معظم الناطقين باللغة العربية، حتى المتعلمين والمثقفين منهم، لأن اللغة الفصحى التي نكتب ونقرأ بها هذه الأيام تختلف تماما عن اللغة التي كتب بها هذا الشعر.. ولا يحدث ذلك مع اللغة العربية فقط، فالناطقون بالإنجليزية لم يعد بمقدورهم فهم شكسبير، وعادة ما تتم ترجمة مسرحياته إلى إنجليزية حديثة حتى تصل إلى الأجيال الجديدة، كما تتم ترجمتها عادة عند تحويلها إلى المسرح والسينما.
من هنا وضعت لنفسى معيارًا للحكم على الشعر الجيد قد يبدو بالنسبة لخبراء وهواة الشعر غريبًا بل مناقضًا لجوهر الشعر وخصائصه المميزة.
بالنسبة لى النص الذي يعتمد على اللعب باللغة والموسيقى الخارجية والإيقاع السطحى أسميه «نظما» وليس شعرا، أما الشعر الجيد في اعتقادى فهو الذي لا يفقد قيمته في الترجمة، أي ذلك الشعر المحمل بالمشاعر والرؤى والأفكار والصور والذي تنبع موسيقاه من العلاقات الداخلية بين هذه العناصر، وليس من خلال الألفاظ والقوافى.
النص الذي تضيع معانيه وجمالياته في الترجمة هو في اعتقادى لعب بارع باللغة يخلو من المضمون والإحساس والرؤية وكل ما ينتسب للفن، وهو أشبه بالأكروبات الصينية أو كرة القدم مقارنة بفن الباليه مثلا. في الأكروبات تصبح الحركة الصعبة غاية في حد ذاتها، وفى كرة القدم فإن الهدف النهائى من كل الحركات هو إحراز الأهداف، أما في الباليه فإن الحركة لها وظيفة مختلفة بالمرة، فهى ليست هدفا في حد ذاته، كما أنها لا تهدف إلى تحقيق شيء خارجى، ولكن وظيفتها هي التعبير عن تلك المشاعر والأفكار والرؤى التي تنتاب الفنان.
وفقًا لهذا المعيار فإن أعظم شعراء الأرض في رأيى المتواضع هو اليونانى المصرى قسطنطين كافافيس.
قرأت كافافيس في فترة المراهقة من خلال مجموعة أشعاره التي ترجمها نعيم عطية في طبعتها الأولى التي صدرت عن الهيئة العامة للكتاب، فلم أعد أستطيع النوم لأسابيع إلا بعد أن أقرأ قصيدة على الأقل من الديوان...وحرصت منذ ذلك الحين على قراءة أي ترجمة جديدة لعمل من أعماله، وقد صدرت بالفعل ترجمات كثيرة من اليونانية مباشرة أو الإنجليزية أو الفرنسية، كان آخرها الأعمال الكاملة التي ترجمها عن الإنجليزية رفعت سلام وصدرت عن الهيئة العامة لقصور الثقافة منذ نحو عام.
قرأت كافافيس أيضًا في ترجمته الإنجليزية الشهيرة التي قام بها إدموند كيلى وبعض الترجمات الأخرى، وكل ما يقع في يدى من كتب أو مقالات عنه، وقد قمت بعمل نسخ خاصة بى مجمعة من كل هذه الترجمات العربية والإنجليزية.
ومع أننى أعشق الإسكندرية إلا أن هذا العشق زاد بعد تعرفى على كافافيس وزيارتى للبيت الذي كان يسكن فيه في الشارع الذي يحمل اسمه بالقرب من محطة الرمل، والذي تحول إلى متحف غالبًا ما أحرص على زيارته عندما أذهب إلى الإسكندرية.
وعندما زرت اليونان منذ خمسة عشر عامًا حرصت على زيارة مركز حفظ تراث اليونانيين المهاجرين، وعثرت هناك على بعض الصور والمخطوطات الخاصة بكفافيس، وعلى كتاب ضخم عن الإسكندرية وكفافيس باليونانية والإنجليزية، وقمت بترجمة بعض القصائد الجديدة، التي لم تكن قد ترجمت إلى اللغة العربية بعد، نشرتها ضمن رسالتى الصحفية عن الرحلة في مجلة «صباح الخير».
لست الوحيد بالطبع الذي تأثر بكفافيس، وقد اكتشفت أنه ترك تأثيرا مماثلا في الكثيرين، مصريين وأجانب. بل إن عنوان واحدة من قصائده تحول إلى عنوان لفيلمين مصريين، هما «المدينة» ليسرى نصر الله، و«إيثاكا» لإبراهيم البطوط.
مع ذلك فإن جزءًا منى يتعامل وكأن كافافيس هو ملك لى وحدى، أو كأننى أعرفه أكثر من الآخرين، أو تربطنى به علاقة قرابة أو صداقة لا تربطه بالآخرين.. ثم عرفت أن هذا أمر معتاد في حالة الفنانين العظماء القادرين على ترك تأثير كبير لدرجة أن من يقع تحت تأثيرهم لا يتصور أن هذا يمكن أن يحدث لشخص آخر.
في حالتى هناك كافافيس وهناك الممثلة الأمريكية أودرى هيبورن، التي تستحق أن أكتب عنها مقالا خاصا للحديث عن التأثير الهائل الذي تركته في حياتى، وعن العلاقة الوهمية الغريبة التي تربطنى بها.
يكتب كافافيس في قصيدته «أصوات»، من ترجمة نعيم عطية، مع بعض التعديلات الطفيفة على الترجمة:
«أصوات حبيبة وخفية
للذين ماتوا،
أو الذين فقدناهم مثل الموتى،
تتكلم في أحلامنا أحيانا،
وأحيانا يسمعها العقل وهو يفكر
مع أصدائها
تتردد لوهلة أصوات من قصائد حياتنا الأولى،
مثل موسيقى
.. بعيدة في الليل تخبو