تعجلت وسائل الإعلام فى وصف المشهد الانتخابى بأنه يتمثل فى العزوف الشعبى عن الانتخابات، خصوصا -كما ذكرت- بين صفوف الشباب. وأصبح هذا الوصف كما لو كان حقيقة، وقبل أن تعلن اللجنة العليا للانتخابات عن درجة المشاركة.
وهكذا تبارت وسائل الإعلام فى بحث لماذا لم تقبل الجماهير على الانتخابات؟ وحين أعلنت النسبة أنها حوالى ٢٦٪ تبين أن ما قيل كان أشبه بالأسطورة التى تفتقر إلى الواقع.
وهذه النسبة -قياسا بانتخابات برلمانية سابقة- ليست متدنية إلى الحد الذى صورته وسائل الإعلام.
وهناك أسطورة أخرى ذاعت على غير أساس، مفادها أن السلفيين قادمون، وأنهم سيكتسحون الانتخابات، أو على الأقل سيفوزون بنسب عالية، خصوصا فى معاقلهم الأساسية كالإسكندرية وغيرها من المدن.
وظهرت النتيجة، وكانت فشلا واضحا لحزب النور السلفى الذى تغلغل بين الجماهير الغفيرة، مستفيدا من انتشار الأمية وتدنى الوعى الفكرى.
والواقع أن الانتخابات لو أردنا تقييمها بصورة علمية فإننا نحتاج إلى تبنى منهج علمى دقيق.
وهذا المنهج لا بد له أن يعتمد أولا على نتائج البحوث فى علم السياسة المقارن التى أجريت فى مختلف بلاد العالم.
وهذه البحوث أجمعت على أن عصر الديمقراطية النيابية قد انتهى بعد أن تبين أنها صنيعة فاسدة، نظرا لتحكم رأس المال فيها، وبالتالى أصبحت فى الواقع غير معبرة عن الجماهير.
ويؤكد ذلك مرجع أساسى أصدره عالم سياسة أسترالى صدر عام ٢٠١٥ بعنوان «نهاية الديمقراطية النيابية» يؤكد فيه صحة نتائج البحوث المقارنة التى أجريت طوال العقد الماضى.
غير أنه بعيدا عن هذه الاعتبارات النظرية -رغم أهميتها البالغة- فإن التحليل الدقيق لقوانين الانتخابات وطريقتها تبين أنها فى الواقع لا يمكن أن تضىء طريق الناخب حتى يختار بطريقة رشيدة.
وذلك لأن التفرقة بين القوائم من ناحية والمقاعد الفردية من ناحية أخرى استغلقت على أفهام الجماهير، بالإضافة إلى أن الفروق السياسية بين قائمة وأخرى لم تكن واضحة.
أما عن المقاعد الفردية فحدِّث ولا حرج! كيف يمكن للناخب حتى لو كان مثقفا وواعيا أن يختار مرشحا أو اثنين من بين أربعين أو خمسين مرشحا؟
وغالبية هؤلاء المرشحين ليس لهم تاريخ سياسى يكشف عن أفكارهم، وأكثرهم شخصيات مجهولة!
ومن هنا يمكن القول إنه نظرا للاضطراب الشديد فى الخريطة السياسية المصرية وتشرذم الأحزاب التقليدية، وعدم معرفة الأحزاب السياسية الجديدة، بالإضافة إلى انعدام صلة هذه الأحزاب بالشارع، جعلت مهمة الناخب ثقيلة حقا!
فما الذى يدفع بالناخب الذى يجهل الأسماء المتعددة فى المقاعد الفردية، الذى لا يعرف الفرق بين هذه القائمة وتلك، إلى أن يبذل الجهد وينزل حتى يختار، مع أن العملية فى الواقع عبثية، لأنها -فى كثير من الأحوال- تقوم على أساس عشوائى؟!
ومن هنا لم أكن مبالغا حين أكدت فى برنامج تليفزيونى أذيع فى قناة «العاصمة»، وفى أثناء الحوار الذى أجراه معى لمدة ساعتين الأستاذ «ممتاز القط» أن هذه الانتخابات -فى تقديرى- هى آخر انتخابات تجرى بهذه الطريقة، لأنها عقيمة وعشوائية ولا تمثل جماهير الشعب المصرى.
وقد سبق لى فى سلسلة مقالات نشرتها فى «الأهرام» عن «عودة الدولة التنموية» أن قررت أن النظام السياسى للدولة قد تجدد بعد «٣٠ يونيو»، لأنها أصبحت بقيادة الرئيس «السيسى» دولة تنموية، بمعنى أن مهمتها الأساسية هى تخطيط وتنفيذ التنمية القومية المستدامة لصالح جماهير الشعب العريضة.
ولذلك قررت أن باقى أطراف النظام السياسى، وهى الأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدنى لا بد أن تتجدد بمعنى أن الأحزاب السياسية لا بد لها أن تتحول إلى «أحزاب تنموية» تشارك الدولة فى رسم الخطط التنموية، بل وتشارك بنفسها فى مشاريع تنموية.
وكذلك مؤسسات المجتمع المدنى، التى تكتفى فى الوقت الراهن بالمطالبات الحقوقية أو تقوم بمهام تافهة مثل مراقبة الانتخابات، سعيا وراء التمويل الأجنبى، لا بد لها أن تصبح هى أيضا مؤسسات تنموية، بل إن عليها مسئولية أهم هى أن تقوم برقابة الدولة فى مجال تنفيذ الخطط التنموية.
وتبقى أمامنا النخبة السياسية العتيقة البالية التى لا بد أن تتجدد معرفيا حتى تعيش روح العصر، وبالإضافة إلى ذلك لا بد للنخبة الثقافية أن تتجدد معرفيا، وتحرص على رصد ومتابعة وتحليل المناظرات الكبرى التى تدور فى العالم، سواء عن طبيعة الدولة أو مستقبل الديمقراطية أو عن نهاية العولمة، حتى تستطيع أن تجدد رؤاها عن العالم، وتصبح بالتالى قادرة على الإسهام بفعالية فى وضع سياسة ثقافية للدولة التنموية تقوم على أساس فهم دقيق للتفاعلات بين المحلى والعالمى.
وذلك لأن الثورة الاتصالية الكبرى -وفى قلبها البث الفضائى التليفزيونى وشبكة الإنترنت- جعلت ملايين الناس فى مختلف أنحاء العالم يعيشون الأحداث فى الوقت الواقعى لها.
وبالإضافة إلى كل ذلك لا بد للمواطن العادى أن يساعد نفسه بالتكوين الذاتى والتدريب والتعلم الدائم.
بعبارة مختصرة لا يستطيع رئيس الجمهورية مهما كانت قدراته، ولا الدولة التنموية مهما كانت قوتها، أن تنجز المهمة الثقيلة الخاصة بالانتقال من التخلف إلى التقدم بغير جهد إيجابى من المواطنين كافة.
هكذا تقدمت الدول الآسيوية مثل ماليزيا والصين ليس بجهد رؤسائها فقط، لكن بعزيمة المواطنين أيضا.