«الإنسان موقف».. هذه مقولة مشهورة لسارتر، والحق أنه بطبيعة الموهبة والمهمة، فليس هناك أولى أو أجدر من الفنان كى تنطبق عليه هذه «المقولة».. نعم «الفنان موقف».
كمثال حديث: فى إحدى حلقات برنامج «العاشرة مساء» على قناة دريم، قبل أسبوع (١٢ أكتوبر)، استضاف مقدمه الإعلامى وائل الإبراشى، الفنان فاروق الفيشاوى فى لقاء مطول على الهواء، وخلال الحوار دافع الفنان القدير بحرارة وعمق وثقافة، عن رؤيته العروبية والاجتماعية التى تنطلق من إيمانه بمبادئ ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢، مكررًا وصف نفسه أكثر من مرة بأنه «ناصري».
وما زلت أذكر باحترام كامل موقف الفيشاوى المتميز (بل ضد التيار بكل معنى الكلمة)، من الأزمة مع الجزائر، التى أشعلها إعلام مبارك وأجهزته، بحمق لا مزيد عليه، وتحويل ظروف وملابسات تتعلق بلعبة كرة القدم، إلى هجوم ضارٍ بل مبتذل، يطال حتى انتماءنا العربى المشترك مع الجزائر، بل ويصل إلى حد السخرية المذهلة المزرية من (شعب المليون شهيد)!!
وأذكر أنه فى ذلك الوقت، فى إحدى السهرات الصاخبة «للإعلام المباركي»، فى برنامج تليفزيونى رئيسى، خصصت حلقته ككل البرامج! للهجوم المحموم ضد الجزائر، أن فاروق الفيشاوى كان المتصل الوحيد بالبرنامج الذى قال كلامًا مختلفًا تمامًا عن السائد، ومما قال: «ستبقى علاقتنا بالجزائر قبل أى ظرف وبعده، سواء رياضى أو غيره.. كانتماء إلى قومية عربية واحدة.. وسيبقى تاريخ ودور مصر الخاص من أجل استقلال الجزائر ودعم ثورتنا لحركة وملحمة تحريرها.. وسيبقى مستقبلنا ومصيرنا المشترك مع الجزائر ومع كل أمتنا العربية..».
لحظتها انتفض واقفًا هائجًا مقدم البرنامج (تامر أمين) كمن قرصته حية أو لسعه كائن مهول!.. وقال بالحرف: (أستأذن فى أن أذهب لقضاء الحاجة.. «هاعمل زى الناس»!.. تعبيرًا عن رأيى فى هذا الكلام والموقف للفيشاوي!!).. وما إن عاد، حتى قال زميله الذى يقدم معه البرنامج (خيرى رمضان): (أهلًا بك!.. سوف أفعل أنا أيضًا مثلما فعلت أنت)!! أتذكر ذلك كله بدقة ووضوح، خاصة أنى كتبت فى حينها عنه وحول تفاصيله فى مقالى الأسبوعى بجريدة «العربي».. واصفًا كل هذه الواقعة المشينة الفضيحة بكل معنى الكلمة ومقدمًا أيضًا تحية واجبة صادقة للفيشاوى وموقفه.. الذى كان على العكس تمامًا من كل الموقف السائد! ذلك الموقف البائس الذى جر إليه مثلًا (إلى سفح الهرم) وفى إطار الترويج، والتأجيج لتلك الحملة (نفس أشرف زكي.. أيضًا!) عددًا من الفنانين.. لوقفة فى ذلك السفح، فى مشهد زائف، ملتحفين بعلم مصر، مفتعلين منفعلين: (تحيا مصر!).. ولتصدر مجلة «أخبار النجوم» وقتها عددًا خاصًا (احتفظت به طبعًا لأنه «تذكاري»!!)، وهو يركز على صور هؤلاء الفنانين فى سفح الهرم، ويرصد للتاريخ والأجيال صيحاتهم المدوية (عدد ٢٦ نوفمبر ٢٠٠٩)، مروجًا لما أسموه: (مقاطعة إنتاجية للجزائر.. ومقاطعة جميع الأحداث الفنية والثقافية الجزائرية.. إلخ صفحة ٧)!.. والحق أن الاستثناء الوحيد فى كل العدد بين كل أهل الفن الذين استطلعت المجلة آراءهم كان الفنانة العظيمة مديحة يسرى متعها الله بالصحة وطول العمر التى كان موقفها مماثلًا للفيشاوي.. حيث قالت بوضوح: «أنا ضد ما بدر من الفنانين الآن، فمن الظلم أن نحاكم الشعب الجزائرى بأكمله بسبب قلة قليلة منفلتة».. مضيفة: «كما أنها فى النهاية مباراة رياضية مثل أى مباراة أخرى أدت إلى أحداث شغب» (صفحة ١٦). كما يذكرنى الفيشاوى بحديثه عن «ناصريته»، وبعمق رؤيته وثقافته، بالفنان الكبير نور الشريف.. والحق أن هناك فنانين يقدرون عبد الناصر وثورته وقيادته، ويرون أن خطه العام وطريقه لا يزال هو طوق النجاة والجسر إلى المستقبل، بالنسبة لمصر وأمتها، مع المراعاة الواجبة المنطقية بطبيعة الحال لكل ما تغير من ظروف، وما يختلف فى عصرنا.
لقد آمن الكثير من الفنانين المهمين بقيمة وقيم ثورة ٢٣ يوليو وعبد الناصر.. وعلى سبيل المثال، من بين المخرجين صلاح أبو سيف، وعز الدين ذو الفقار، (وأيضًا توفيق صالح بنظرة نقدية موضوعية)، وفى مرحلته الأخيرة يوسف شاهين.. كذلك المخرجين محمد فاضل وإبراهيم الصحن وعباس أرناؤط ومصطفى العقاد إلى جيل عادل عوض وخالد يوسف، و(فى المسرح) سعد أردش وكرم مطاوع وأحمد عبد الحليم وغيرهم.. والكُتّاب من نعمان عاشور إلى محفوظ عبد الرحمن ويسرى الجندى وأسامة أنور عكاشة وبشير الديك وغيرهم، والفنانين الممثلين أحمد مظهر وعبد الله غيث ورشدى أباظة وسعاد حسنى وسهير المرشدي.. مرورًا بنور الشريف وفاروق الفيشاوى ومحمد وفيق وعبلة كامل وسامح الصريطى وسامى مغاورى إلى حنان مطاوع وجيل راندا البحيري.
لكن فى نفس الوقت، اتخذ فنانون آخرون موقف الهجاء والهجوم الدائم والرفض التام لعبد الناصر، وتجربته الثورية وللناصرية: مثلًا فى السينما حسين كمال وحسام الدين مصطفى.. وفى المسرح جلال الشرقاوى وسامح مهران.. ومثلًا الكُتّاب ممدوح الليثى وعلى سالم ولينين الرملى ومصطفى محرم ومحمد صفاء عامر.. والفنانون حسين فهمى ومحمد منير ومحمد الحلو، وغيرهم.
ونرجو أن يكون للحديث بقية.