ونواصل رحلتنا الشديدة الصعوبة والكثيرة المزالق مع كتاب محمد أركون «قضايا فى نقد العقل الدينى.. كيف نفهم الإسلام اليوم»، ونجتاز صفحات كثيرة لنأتى إلى حوارات شديدة التعقيد وشديدة المخاطرة أجراها المترجم الحريص مع الكاتب الشديد التوتر. فالمترجم هاشم صالح وبعد أن أرهقته ترجمة المتن آثر أن يستوضح من المؤلف كثيرا من إيضاحات تصبح مع كل صفحة من صفحات الكتاب ضرورية. ونقرأ بعضا من إجابات أركون «أعترف أن الغربيين قد تعبوا من إيقاع الحداثة المتسارع، فالكثيرون فى أوروبا يعانون الآن من فقدان البعد الروحى فى الحياة بسبب الانغماس الكامل فى البعد المادى والماديات. فبعد أن يشبع الإنسان من حياة الاستهلاك المادي، يبحث عن شيء آخر، عن إشباع روحى مثلا، لأنه لم تعد هناك فى مجتمعه ذروة عليا تفرض بشكل قاطع ما هو ممنوع وما هو مسموح كما كان الحال فى الأيام السابقة. فمجال المسموح به أصبح أكبر بكثير من مجال الممنوعات، وذلك عكس ما هو حاصل فى مجتمعاتنا الإسلامية، لا شيء ممنوع عندهم تقريبا خاصة فى مجالات الأخلاق والقيم الأخلاقية وغيرها من القيم التى تلاشت فى المجتمعات الغربية أدوات ضبطها. وهكذا بدأ يتنامى نوع من الحنين للماضي، أقصد الحنين إلى مرجعيات مطلقة إلى حقيقة تفرض نفسها على الجميع.
ذلك لأن التعاملات الأخلاقية مثلا والقيمية هى تعاملات مع الآخرين ولذلك تنمو الحاجة إلى مرجعية مطلقة (أى مرجعية إلهية) تهيمن على الجميع»، لكن محمد أركون لا يلبث أن يحذرنا «ولكن عندما نتأمل هذه الحاجة وذلك الحنين الذى يشعر به الأوروبى المغموس كليا فى الحداثة المادية والعقلية المجردة فإنه يتعين علينا أن ندرك أنه ليس من السهل استعادة ما كان عليه آباؤهم فى الماضي. وأنه ليس من السهل أن نجعل «التدين» حاضرا فى كل مكان عام أو كل العلاقات المتواجدة بين البشر» (ص٢٧٥).
ويسأله هاشم صالح «وما رأيك فيما يقوله حسن الترابى دوما من أن الدين وسبحانه وتعالى موجودان معنا نحن فى كل مكان؟» ويجيب أركون دون تردد «إن الدين إذ يوجد عندما إنما يأتى فى شكل تصور معين خاص بالإسلام وليس الدين ذاته. فالناس لا يعرفون «الدين» ذاته، ولا يتصلون مباشرة «بالدين» المجرد المتعالى وحقيقته المتعالية التى لا يرتفع إليها بشر وإنما هم يتصلون به عبر رؤية البعض له، والإنسان العادى يتصور أنه يتصل بهذه الحقيقة التى لا يرتفع لمستواها البشر بمجرد النطق بها، غير مدرك أنه إنما ينطق بمنطق تلقنه مما هو سائد ومن بعض الشيوخ وليس من «الدين ذاته». ثم يقول «إن الله يتعذر على المنال، الله يتعالى على كل شيء، ولا يحق لأحد أيا كان أن يتحدث باسمه، ولا يمكن للبشر أيا كانوا أن يصلوا إليه بشكل مباشر وإنما يقدم كل منهم تصوره الخاص للذات الإلهية وتعاليمها.. بمعنى أنهم لا يصلون إلى أصل الدين إلا عبر وساطة بشرية».
ثم يقول، وهنا تطرح الإشكالية الأساسية «هنا يكمن كل تاريخ الإسلام والفكر الإسلامي. فالمشكلة هى أن المسلمين يعتقدون أنه من السهل أن نتكلم عن الدين هكذا فى الهواء، وأنه يكفى أن نقسم بالله مثلا لكى نكون فى ظلال حضوره وهذا تصور مثالى خاص بالعصور الوسطى، أى عندما كان الناس لا يفرقون بين الاسم والمسمى أو بين الكلمة والشيء الذى تدل عليه» (ص٢٧٨).
ويواصل المترجم هاشم صالح فى الجدل بحثا عن مكنون فكر محمد أركون فيقول له «لكن القرآن يصلنا بالله مباشرة لأنه كلام الله. ويجيب أركون» بالطبع. ولكن القرآن بحاجة إلى تأويل» (ص٢٨١). ويعود المترجم ليسأل «ما الذى تقصده بعنوان الكتاب: نقد العقل الإسلامي؟» فيقول أركون «أقصد إعادة القيام بتقييم نقدى شامل للموروث الإسلامي، ولكى لا تخيفك الإجابة سوف أميز بين ثلاث أو أربع مراحل ١- مرحلة القرآن والتشكيل الأولى للفكر الإسلامي، ٢- مرحلة العصر (الكلاسيكي) أى عصر العقلانية والازدهار العلمى والحضاري. ٣- مرحلة العصر الاجترارى التكرارى أى العصر الذى اكتفى فيه المسلمون باجترار ما سبق قوله وتكراره دون تمعن ودون إعمال العقل. ٤- مرحلة النهضة فى القرن ١٩ وحتى خمسينيات القرن الماضي» ثم يأتى ما نحن فيه. ويقول أركون عن القرآن «يبدو الخطاب القرآنى وكأنه انبجاس طالع من القلب ومفعم بالحياة والحياة الجارية للعمل التاريخى الذى قاده النبى محمد (صلعم) طيلة عشرين عاما».. (ص٢٨٤). ثم يقول أركون وكأنه يصرخ «ينبغى أن يستيقظ المسلمون، أن يفتحوا عيونهم، أن يقرأوا القرآن بعيون جديدة، أن يتموضعوا فى عصره وبيئته لكى يفهموه على حقيقته ولا يسقطوا عليه أفكار عصرهم وهمومه، أو نظرياته. القرآن ليس كتابا فى علم الفيزياء أو الكيمياء ولا هو يفرض نظاما اقتصاديا محددا دون غيره، ولا نظاما سياسيا معينا. هذه أشياء متروكة للبشر لكى يحلوها طبقا لقوانين علم الاقتصاد والاجتماع والسياسة. القرآن هو أولا وقبل كل شيء كتاب دينى ربانى يتحدث ببلاغة عالية عن موضوعات تخص البشر أينما كانوا كالحياة والموت والآخرة والعمل الصالح والعدل إلخ. وفيه مبادئ أخلاقية ذات طابع كتلك الآية التى تقول «فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره» ألا يكفى هذا المبدأ الأخلاقى وحده لكى يوجه كل سلوكك وكل حياتك الشخصية فى المجتمع؟» (ص٢٨٦).
وبعد هذه الرحلة المرهقة عبر صفحات كتاب «محمد أركون اكتفى موجها الشكر للمؤلف الذى فتح أمامنا بشكل إجبارى أبواب تساؤلات تقلق العقل وتدفعه للتفكير.. وللمترجم الذى عانى مثلى وقال إذا أردت أن أشرح هذا الكتاب سأحتاج إلى ثلاثة كتب.