يستهل يسرائيل هاريل مقاله، بالإشارة إلى أنه خلال مشاركته فى مؤتمر عقد فى عمان العاصمة الأردنية منذ عدة سنوات، جلس عدد قليل من الإسرائيليين والمصريين يتحادثون، وسئل أحد الإسرائيليين عن آخر مرة زار فيها مصر، فأجاب ساخرا «فى السادس عشر من أكتوبر ١٩٧٣، و بدون جواز سفر، حيث عبرت قناة السويس مع وحدتى العسكرية إلى أن انسحبنا بعد عدة شهور، ولكننا الآن قد تحقق لنا السلام» واستدرك موجها حديثه للمصريين قائلا: «إننى لا أقصد إهانة أحد» وحدث قدر من الاضطراب العابر، وقال بعض المصريين إن ذلك لم يحدث مطلقا، غير أن جنرالا مصريا متقاعدا وجه حديثه إلى زملائه المصريين مؤكدا أنه «من الناحية الفنية لم يبتعد الإسرائيلى عن الحقيقة، فقد استدرجناهم عبر القناة إلى فخ خططناه لإبادتهم»؛ ثم التفت إلى الإسرائيلى مستمرا فى الحديث متسائلا: «إذا كنتم قد انتصرتم، فلماذا انسحبتم من الضفة الغربية للقناة ثم من كامل سيناء وفقا لشروطنا؟».
إنه ذلك التساؤل المحير الذى لم يعرف له هاريل جوابا شافيا، ولعل الغموض الذى يحيط بذلك السؤال يرجع إلى حقيقة أن الانتصار فى حرب يوم الكيبور لم يكن انتصارا تقليديا بأى حال، وبصرف النظر عن هوية الطرف المنتصر؛ بل كان انتصارا له مذاق خاص. إن الانتصار العسكرى الحاسم يعنى حلول السلام بعد استسلام العدو استسلاما غير مشروط، دون مفاوضات ولا مناورات ولا حتى تدخل من المهزوم فى صياغة وثيقة الاستسلام. الاستسلام غير المشروط هو عملية استسلام تمنع المستسلم من وضع أيّة شروط مقابل استسلامه، كما لا تشترط على المُستسلم إليه منحه أية ضمانات، وإن اشتمل الاستسلام غير المشروط بعض الضمانات للمُستسلم فى نصوص القانون الدولى الحديث، والمعروف أن الاستسلام غير المشروط دائما ما يضعف من همم الجانب المُستسلم، والذى غالبا ما يقبل بالاستسلام بهذه الصورة بعد ضعف أو ربما استحالة قدرته على الانتصار فى الحرب أو صد عدوان ما.
كانت تلك هى مشاهد الاستسلام التى كانت عالقة بالذاكرة منذ استسلام دول المحور فى الحرب العالمية الثانية، وهو ما لم تشهده نهاية حرب أكتوبر بل ولا نهاية أى مرحلة من مراحل المواجهات العربية مع إسرائيل، فرغم وقوع هزائم، إلا أنه لم يحدث استسلام معلن غير مشروط من جانب أى طرف من أطراف الصراع منذ بدايته وحتى الآن.
ولنعد إلى مقال هاريل لنجده يقول: «لقد دأبت مصر عبر أعوام طوال على أن تقيم احتفالا بهيجا بما اعتادت أن تطلق عليه «انتصار أكتوبر»؛ حيث يقوم رئيس الجمهورية بتقديم الميداليات للضباط الذين قاتلوا فى الحرب وسط صيحات الجماهير المبتهجة، وعلى النقيض من ذلك يظل الإعلام الإسرائيلى طوال تلك السنوات يحيى ذكرى انتصار جيش الدفاع الإسرائيلى بالاستمرار فى معزوفة الحداد، والبحث عن الإخفاقات ليضرب الصدور ندما على ما ارتكبتاه من خطايا وما لم نرتكبه أيضا».
ويمضى هاريل مؤكدا أنه سبق له أن أعلن منذ سنوات أن احتفالات المصريين بنتيجة حرب أكتوبر تعد نموذجا بارزا لجانب أساسى فى مصر وهو الحياة فى عالم خيالى يجعلهم يتخيلون الانتصار؛ ومن ناحية أخرى فقد سبق أن أعلنت «أن حرب يوم الكيبور كانت أعظم انتصار حققه الجيش اليهودى على الإطلاق، ومن ثم فإن أولئك الإسرائيليين الذين يحاولون تصويره كما لو كان هزيمة؛ إنما يعيشون فى عالم خيالى شأنهم شأن المصريين تماما ويتصرفون كما لو كانوا يعانون من صدمة الحرب. رغم أن تلك الحرب قد انتهت وجيش الدفاع على مبعدة ١٠١ كيلومتر يواجه عاصمة مصر مفتوحة أمامه بينما آلاف المصريين يستسلمون دون قتال».
«إننا نعانى من ذات الأعراض التى أصابت جواسيس العهد القديم biblical spies فكنا فى أعين أنفسنا كالجراد وهكذا كنا فى أعينهم». ويخلص هاريل إلى أنه طالما أن ما يعول عليه هو الحالة العقلية، فقد كسب المصريون الحرب بكل تأكيد. إننا فى الحقيقة لم نحصد ثمار النصر، ولم نمل شروطنا على المصريين – وكنا نقف على أبواب القاهرة- بل إننا حتى لم نحتفظ بالمستوطنات فى شمال سيناء. بدلا من ذلك فقد كنا تحت تأثير صدمة الحرب أشبه بمن قال عنهم التوراة فى نهاية روايته عن جواسيس العهد القديم «سوف يسقطون دون أن يدفعهم أحد».
«ومن الجانب المقابل، فإن أولئك الذين احتفظوا بتوازنهم النفسى رغم الكارثة التى أصابتهم، تمكنوا من تحقيق أهدافهم الاستراتيجية. ولعلنا سوف نشهد فى العام القادم بمناسبة الذكرى السنوية للحرب معسكر الجراد وقد ازداد قوة وسوف تصدر الصحف كعادتها ملاحق حزينة تردد نغمة جلد الذات وتحويل النصر إلى هزيمة».
وهكذا عجز هاريل عن التفسير والإجابة عن تساؤل الجنرال المصرى العجوز.
وللحديث بقية