قامت الدُنيا ولم تقعد، لأن حلمى النمنم، وزير الثقافة، قال إن مصر دولة علمانية بالفطرة، وإن كل محاولات تبديلها إلى دولة دينية أدى إلى دماء ومعارك وفوضى. غضب السيد ياسر برهامى غضبا شديدا، ووصف فصل الدين عن الدولة بالكفر، ووصم المُتسلفنون على صفحات التواصل الاجتماعى الوزير بـ«الخائن»، ودعاه بعضهم إلى التوبة، ورفع بعض آئمة المساجد أكفهم إلى السماء داعين بالهلاك على الرجل.
لم يعُد الصدق منجى فى هذا الوطن الذى تشوهت دماغه، فصار كُل ما يُخالف القطيع جُرما وفسادا. لم تعُد الحقيقة هى ما يبغيها الناس والرأى العام، وإنما على معشر الكُتاب والمفكرين وأصحاب الأدمغة أن يقروا القبح كما هو أو يصمتوا صونا لدمائهم وطلبا للسلامة. أن يجرؤ حلمى النمنم الخروج عن الخط، ويجاهر بالصدق، ويصدع بالحقيقة، فذلك مرفوض وممنوع. أن يقول ما تغاضينا عن قوله، ويُقر كمسئول عن ثقافة وإبداع هذا الوطن بأن فصل الدين عن السياسة هو الخلاص والمنجى، فهو إزعاج للذات البرهامية وتحدٍّ للحى التُجار البدويين.
لا صيحات أصحاب اللحى تُزعجنا، ولا أدعيتهم على المُثقفين «الزنادقة» تُرهبنا. لو كان لهم دعاء مستجابا لدعوا لأنفسهم بالصلاح والهُدى والفهم الواعى لمشكلات الوطن. إن هؤلاء يستغلون جهل الناس بمعنى العلمانية، وبالصورة السلبية للمصطلح فى مصر، ففى عصر أنصاف العقول وأنصاف المواهب وأنصاف الثقافة أصبحت كلمة علمانية مُرادفا للكفر، وصار فصل الدين عن الدولة بمعنى الخروج عن الدين.
إننا بحاجة ماسة إلى إعادة الاعتبار إلى مُصطلح العلمانية الذى يُنزه الدين -أى دين- عن أن يستخدمه ويستغله انتهازيون لتحقيق مصالح ذاتية. الدين ليس سُلما إلى السلطة ولا ينبغى أن يكون، ومَن يعود إلى قراءة واعية للتاريخ الإسلامى ولنصوص الإسلام الخالصة يعى تماما صحة ما ذهب إليه الكاتب الراحل توفيق الحكيم من أن الإسلام دين علمانى. فى الإسلام لا نظام سياسيا مُحددا، وإنما هناك حرية للناس أن تجتهد للشكل الأمثل للحكم. الإسلام دين ليس به سلطة دينية، ولا كهنوت، واختيار الحاكم فيه لا يعتمد على اختيار الأتقى وإنما الأقوى والأنسب والأصلح.
مصر دولة علمانية. يا ليت. نتمناها كذلك. نحلُم بها دولة ترعى حقوق مواطنيها دون نظر إلى معتقداتهم. لا فرق بين مصرى وآخر إلا بالكفاءة والإخلاص. لا تجارة بالقرآن ولا اختطاف للافتات الدين لنيل أصوات انتخابية.
لقد هالنى وأنا أراجع تاريخ الإسلام السياسى فى هذا البلد أن أكتشف مخازى وفضائح و«بيزنس قذر» ومظالم وتشويها للإسلام كنتاج لمولد جماعاته. ماذا كسب المصريون من ظهور جماعة الإخوان المسلمين مُنذ ما يقرب من تسعة عقود؟ دم، خراب، تدمير، تحجير للعقول وإغلاق للفكر ووأد للتحرر. بل قولوا لى ماذا ربح الإسلام من هذه الجماعة؟ لقد شوهت الدين وحولته إلى جسر لوصولها إلى السلطة ولا شىء أكثر.
لقد أنجب هذا الوطن فى زمن الليبرالية الحق قامات عظيمة مثل طه حسين وعباس العقاد وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ وأم كلثوم. فى ذلك الزمن الذى قال فيه مصطفى النحاس زعيم مصر لحسن البنا إن وضع كلمة «الله» فى برنامج سياسى شعوذة، ووافقه الناس وأيده ولدة النهضة الفكرية والإبداعية.
أما فى زمن النفط، والوهابية، والمد المتطرف، والنقاب، فلم تُقدم مصر شيئا. يا ليتها علمانية يا سيادة المثقف الكبير. يا ليتها كذلك.
والله أعلم.