يمضى عالم النفس لازاروس فى تقديم المزيد من النصائح للإسرائيليين بعد صدمتهم فى الحرب قائلا: «لقد كان المطلوب أولاً فى فترة ما بعد حرب يوم الكيبور هو التفكير والتخطيط بعيد المدى، وطرح أفكار جديدة قائمة على إعادة التقييم الواعى للموقف، ولست أعنى بذلك أنه لم يكن هناك تخطيط فيما قبل حرب الكيبور، ولكن ما أعنيه هو أن التخطيط كان مرتكزا على مسلمات وتقييمات خاطئة، ويبدو من الضرورى حاليا توفير الجهد الأكبر لمراجعة المشكلة ككل، وإعداد الترتيبات لنضال طويل المدى مع العالم العربى والبحث عن طريقة جديدة للتصدى لما يفرضه العداء العربى من تهديد مستمر».
لقد كشف هذا الخطاب الذى ألقاه ريتشارد لازاروس عن عدة آثار هامة خلفتها حرب أكتوبر على التركيبة النفسية الإسرائيلية. لقد تزايد الإحساس بالخطر وتزايد الشعور بالعزلة، وانهارت لدى الإسرائيليين مسلمات عديدة تتعلق بقدرة إسرائيل العسكرية المطلقة، وكفاءة قيادتها وتفوقها على العرب، ونصحهم «لازاروس» بمزيد من شحذ عدوانيتهم، بل وصهيونيتهم أيضاً، ولقد أخذ الإسرائيليون بنصيحته، وما زالوا.
أما فكتور صنوع، وهو عالم نفس يهودى أمريكى صريح فى صهيونيته وفى عدائه للعرب، فقد نشر فى الفترة من ديسمبر ١٩٧٣ حتى أغسطس ١٩٧٤ سلسلة من المقالات فى إحدى المجلات العلمية المتخصصة فى علم النفس تحت عنوان «الآثار النفسية لحرب يوم الكيبور »، أورد فيها أن نسبة المصابين بصدمة نفسية من بين الإسرائيليين فى حرب أكتوبر قد تراوحت بين ٥٪ إلى ١٠٪ وهى نسبة عالية تماما، حيث إن عددا مثل هؤلاء المصابين فى الحروب السابقة لم يكن ليذكر، ويرجع «صنوع» ارتفاع هذه النسبة إلى المفاجأة العربية للجيش الإسرائيلى فى يوم الكيبور أقدس الأعياد اليهودية.
ويشير صنوع إلى أنه «قد ظهرت خلال حرب يوم الكيبور العديد من مظاهر الاعتماد على التفكير السحرى أو الخرافى لدى أولئك الذين قتل أو فقد أبناؤهم أو أزواجهن، لقد استأجرت بعض الأسر الثكالى الوسطاء الروحانيين لمعرفة ما إذا كان أحباؤهم المفقودون مازالوا أحياء، كما اشترك بعض الأرامل والآباء الثكالى تحت وطأة يأسهم فى جلسات تحضير الأرواح للاتصال بالموتى، وقد لوحظ انتشار هذا السلوك حتى بين جماعات الشباب المثقفين اللامعين».
كان ذلك هو الاتجاه الغالب على رؤية الإسرائيليين لحرب أكتوبر، الجميع يسلمون بأنها هزيمة ثم قد تتباين آراؤهم فى تحديد مسبباتها وتقدير حجم نتائجها ووسائل مواجهتها.
وتمضى سنوات طوال وجرح حرب أكتوبر ما زال غائرا فى التركيبة البشرية الإسرائيلية، يستعيدون الذكرى كل عام، ورغم مرور أربعين عاما، ما زال السؤال الاستنكارى هو: هل هزمنا حقا؟ هل هزمنا بما لدينا من قنابل ذرية واستخبارات لا تجارى وتحالفات مع أقوى دولة فى العالم؟ كيف حدث ذلك؟ ويظل الهاجس المؤرق يتردد: هل يمكن أن نفاجأ مرة أخري؟
ورغم الاعتراف العام بحقيقة الهزيمة الإسرائيلية؛ إلا أن بعض الكتاب الإسرائيليين لم يحتملوا ألم الاعتراف الصريح بتفوق الأداء العسكرى المصري، فاتخذوا سبلا ثلاثا للالتفاف على تلك الحقيقة، البعض أنكرها تماما مرددا أن ذلك اليوم كان يوم انتصار ساحق لإسرائيل، لكن الإسرائيليين لم يدركوا أنهم انتصروا وأن النصر كان حليفهم، والبعض أرجع ما حدث إلى تواطؤ أمريكى إسرائيلي، والبعض أرجعه إلى مهارة مخابراتية مصرية غير مسبوقة؛ وسوف نعرض لتلك الرؤى الثلاث.
طرح يسرائيل هاريل رؤية مركبة لما حدث، إذ كتب فى جريدة «هآرتس» بتاريخ ١١ أكتوبر ٢٠١٢ مقالا يحمل عنوانا ملفتا «على إسرائيل أن تفيق من صدمة ما بعد يوم الكيبور: بينما يحتفل المصريون بنصر أكتوبر ينظر الإسرائيليون إليه باعتباره هزيمة، و كلاهما مخطئ فى تقييمه».
وقبل أن نمضى فى قراءة المقال ينبغى التعرف على الكاتب يسرائيل هاريل الذى يحمل الجنسيتين الكندية والإسرائيلية، وقد أدى الخدمة العسكرية فى جيش الدفاع الإسرائيلى من ١٩٧٩ إلى ١٩٨١ ثم استدعى كضابط احتياط ليشارك فى حرب لبنان عام ١٩٨٢، وهو يكتب بانتظام فى جريدة «هآرتس» كل خميس منذ عام ١٩٩١. وإلى جانب ذلك، فإنه مؤسس مركز الصهيونية الدينية فى مؤسسة شالوم هارتمان ومؤسس مجلس الجماعات اليهودية فى الضفة الغربية الفلسطينية وغزة، وفضلا عن ذلك فقد كان هاريل من مؤسسى حركة جوش آمونيم «Gush Emunim» وتعنى «كتلة المؤمنين» التى تأسست فى فبراير عام ١٩٧٤ إثر حرب الكيبور، داعية إلى تكثيف المستوطنات فى الضفة والقطاع والجولان. وقد طرح الكاتب فى مقاله رؤية تختلف عما استقرت عليه الروايتان الرسميتان العربية والإسرائيلية اللتان تتفقان على توصيف حرب الكيبور باعتبارها هزيمة إسرائيلية.
ولنبق مع هاريل فللحديث بقية.