وإذ نطوى صفحة المقدمة فى كتاب محمد أركون «قضايا فى نقد العقل الديني- كيف نفهم الإسلام اليوم؟» تواجهنا مقدمة للمترجم هاشم صالح عنوانها معركة الفكر فى الساحة العربية، وهو يثير فيها إشكالية حقيقية تجابه المثقف العربي، بل وتواجه اللغة العربية ذاتها، ويحذرنا من البداية أنه يتحاشى الترجمة الحرفية «فلكل لغة منطقها وخصوصياتها وطرائقها فى التعبير فينبغى للكتاب المترجم ألا يبدو عليه أنه مترجم.. وهو أمر غير متوفر فى الترجمة التى فى أيدينا رغم ما بذله المترجم من جهد»، لكنه لا يلبث أن يقدم السبب الحقيقى فيقول: «أصبح من تحصيل الحاصل القول بأن ترجمة الفكر تشكل حاجة ماسة للثقافة العربية، بل إنه يتوقف عليها إنقاذ تلك الثقافة وهذه اللغة العريقة، فقد أصبح الواحد منا يشيح ببصره عنها إذا أراد أن ينهل العلم الحديث أو يتعمق فى دراسة موضوع ما أى موضوع كان، ثم يسألنا لماذا؟ ويجيب لأن معظم العلوم الإنسانية الحديثة بكل مصطلحاتها وفتوحاتها المعرفية لم تعرف حتى الآن فى اللغة العربية، فكلها مودعة فى بطون الكتب الأجنبية من إنجليزية وفرنسية وألمانية، فأصبح المثقف العربى الذى لا يعرف أى واحدة من هذه اللغات يبدو متخلفًا أو عاجزا عن متابعة الجديد» فيقول: «لذا أصبح الطالب العربى مضطرا للتخلى عن لغته بمجرد أن يصل إلى مرحلة الدراسات العليا أو حتى قبل ذلك، فلكى يتعمق فى اختصاص ما لا بد من اللجوء إلى لغة أوروبية، وإذا استمر الأمر على هذا النحو، تحولت اللغة العربية إلى لغة أدب وشعر ورواية، وبطلت أن تكون لغة فكر وفلسفة واختصاص علمي».. ثم يواصل تحذيرنا مستندا إلى قول لعبدالله العروى، إذ قال: «ينبغى ألا نستغرب هيمنة الثقافة المتخلفة علينا فى الشارع والبيت والمدرسة وحتى الجامعة»، ثم يستدرك قائلا: «لا نقول ذلك من باب الرغبة فى القضاء على الثقافة الموروثة، وإنما من باب الموازنة والتوازن، فالطالب العربى بحاجة إلى كلتا الثقافتين.. الموروثة والحديثة لكى يختار منهما ما يشاء، أو يمزج بينهما أو يحقق نوعا من المصالحة.. وإذا لم يتغير هذا الوضع فلا يمكن التحدث عن وجود ثقافة أو فكر فى اللغة العربية»، ثم هو يعزز هذا الرأى بقول مماثل للمفكر اللبنانى الدكتور موسى وهبة الذى قال فى تصريح لمجلة عمانية: «أنا لكى أفكر بشكل مفيد يجب أن أفكر باللغة العربية ويجب أن تكون مراجع تفكيرى هى أيضا بالعربية وإلا سأقوم بعمل مضاعف أى أترجم فى عقلى من اللغة الأجنبية ثم أطلقها بالعربية، ويمضى موسى وهبة قائلا: «إن مسألة الترجمة أصبحت عندى مسألة استراتيجية، فأنا مستعد أن أترك أى عمل من أجل الإسهام فى إحضار التراث الإنسانى بلغة عربية موحدة المصطلحات، لأن هناك ترجمات عديدة ولكنها ترجمات عشوائية»، ويقول موسى وهبة إنه كتب إلى عديد من الهيئات ومنها منظمة الأليسكو دون أن يلقى اهتماما جادا، ويتذكر عصر نهضة الفكر فى زمن الخليفة المأمون الذى أمر بترجمة الإبداعات الأجنبية فى زمانه، ويقول «لم أجد مأمونا عربيا واحدا فى دنيا العرب، فالمسألة الآن إننا بحاجة إلى جهد مركز وموحد إذا كان للعرب رغبة فى دخول العصر الحديث، دون الدخول فى هذا الصراط، أى صراط نقل العلوم الإنسانية إلى اللغة العربية لن يدخل العرب إلى العصر الحديث» وهكذا وبعد أن يعبئ المترجم هاشم صالح معه رأى آخرين بأنه يؤكد أن الحاجة أصبحت ماسة لتأسيس «مركز عربى للترجمات والبحوث» والمثير للدهشة أن أحدا من هؤلاء الثلاثة لم يلتفت إلى جهود مراكز الترجمة التى تواجدت فى مصر منذ مشروع الألف كتاب إلى المركز التابع للمجلس الأعلى للثقافة، ربما لأن أغلب الاهتمام كان ولم يزل منصبا على ترجمة روايات ومسرحيات وما يماثلها وهى برغم أهميتها لا تفى بما هو مطلوب.
لكن الأستاذ هاشم صالح يحاذر ولا يغامر فيلجأ إلى إيضاح يختتم به مقدمته بعبارة تقول: «ليفهم قصدى جيدًا أننى لم أهدف من نقل هذا الفكر الغربى إلى الاستهانة بالتراث، على العكس تماما، فالميزة الأساسية لفكر محمد أركون، أنه ينقذ الإيمان الصحيح على الرغم من قيامه بالنقد التاريخى الصارم للتراث، ولذلك يهاجمه بعض الحداثويين (أى دعاة الحداثة) بأنه لا ينتقد التراث بما يكفي.. وهكذا فإن أركون يهاجم من كلتا الجهتين من يمينه ويساره.
والآن وبعد مقدمة الكاتب ومقدمة المترجم يمكن أن نتأمل ولو فى عجالة متن الكتاب لكن المترجم يحذرنا لو أردت شرح ما يقصد محمد أركون كى يفهم على حقيقته لكتبت ثلاثة كتب، فما بالنا ونحن سنكتب مساحة محددة.