السبت 21 سبتمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

تلك الساعة..!

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
من بين ساعات الأيام، وعبر مفازات زمنية موغلة فى الابتعاد، فإنها تبدو عصية على النسيان، بل إن استحضارها يبدو هو أيضا، عصيا على الانسحاب إلى زوايا المتاحف والتعامل معها كتمثال شمعى جاف.
فرغم مرور ٤٢ عاما على انفلاتها من العدم، تقف عفية نابضة، صاخبة الصوت والصدى فاردة طولها على كامل المشهد، متحدية متكابرة، واثقة من نفسها مثل امرأة اختصرت فى نفسها كل الجمال والإثارة.
ومع تسليمنا المطلق بأن ذلك من حقها، فإننا نؤكد أنه لولاها، على الكيفية التى جاءت بها من ظلمة العدم، لما كنا الآن نتدله فى الأيام التى تلتها سطوعا وتحديا وكبرياء، فولد من طاقتها النورانية طفلها الذى لا يشيخ أبدا، وروحها التى تلبست الذين شهدوا الميلاد الإعجازى فطفقت تسبغ ما حولها حماسا مضمخا بدم المصير الذى كان يتراقص على محك الأيام الصعبة..
إنها «تلك الساعة» الخالدة.. الثانية من بعد ظهيرة يوم السبت السادس من أكتوبر فى العام الثالث والسبعين من القرن الماضى.. «تلك الساعة» التى أعلنت قيام الإرادة المصرية من الخنادق العميقة ومن زوايا الاسترخاء المماطل، على قدمين ثابتتين قدتا من حديد الصبر الطويل لتعطى لألفى مدفع ثقيل إذنا بالتصرف فى داناتها التى كانت تتحرق شوقا للعبور إلى الضفة المقابلة على وسائد الهواء الملتهب لتجبر المتمترسين بالقلاع المدججة بالسلاح والغطرسة على النكوص والفرار من قبضة الردى.
هى تلك الساعة نفسها التى أعلنت الإفاقة، وأعادت للمصريين فى شوارع العاصمة وحارات القرى المجهولة الحق فى البهجة، رغم أنهم لم يصدقوها ولم يصدقوا أنفسهم حين نهضت من الرماد كطائر الرخ الأسطورى قبل أن تجاور العابرين على مياه المانع المائى الصعب، وأن تمسك بمجذافين، وهى تقود القوارب المطاطية للنصر المبين، هى تلك الساعة التى لا يزال التاريخ يتوقف أمامها طويلا كلما عنت الذكرى وتختلف الأزمنة..
فى كل مناسبة لها أتذكر ذلك اليوم، وكنت عائدا للمنزل بكامل زى مدرسة الشهيد عبد المنعم رياض الثانوية العسكرية فى مدينة الشمس الساطعة «كينيويوليس»، وهو اسمها الإغريقى الذى تحول بعد الفتح الإسلامى إلى «أقنى» ثم «قنا»، وكان مقر منظمة الشباب الاشتراكى الناصرى «التى ألغاها السادات فى ١٩٧٥»، وكنت أحد أعضائها فى منتصف الطريق للمنزل، لكننى مررت بها، وهناك التقيت بتلك «الساعة» على متن البيان رقم (١) الصادر عن القيادة العامة للقوات المسلحة، وكان نصه: «قام العدو الساعة الواحدة والنصف بعد ظهر اليوم بمهاجمة قواتنا بمنطقتى الزعفرانة والسخنة بخليج السويس بواسطة تشكيلات من قواته الجوية عندما كان بعض من زوارقه البحرية تقترب من الساحل الغربى للخليج، وتقوم قواتنا حالياً بالتصدى للقوات المغيرة».
صحيح أننا اكتشفنا بعدها أنه كان بيانا مراوغا لكن الصحيح أيضا أنه ما كان يجدر بالبيان الأول أن يقول الحقيقة، وهى أننا بدأنا معركة الثأر والكرامة واستعادة الروح، جريت على منزلى لأترك حقيبة الكتب ولأخبر أمى وأبى بأننى سأكون مشغولا ربما لليوم التالى حتى لا ينشغلو، لأن أمامنا مهام كثيرة تدربنا عليها فى منظمة الشباب لمثل هذا اليوم، منها التنسيق مع المستشفى المركزى لإعلان حملة التبرع بالدم، ثم مساعدة من يطلب مساعدتنا فى طلاء النوافذ الزجاجية «بالزهرة» الزرقاء تحسبا لتعرض المدينة لغارات خسيسة من الطيران المعادى، وكانت قنا قد تعرضت لإحداها أثناء حرب الاستنزاف، نتجت عنها أضرار بالغة بكوبرى دندرة وكانت شركة ألمانية قد انتهت منه قبل مدة قليلة، وأتذكر أن اسمها كان «شركة هوختيف» الألمانية الشرقية، كما كان من مهامنا الليلية أيضا أن نجوس فى الشوارع والحارات والأزقة للمساعدة فى تطبيق تقييد الإضاءة فى المنازل، ثم العمل مع ورديات قوات الدفاع المدنى فى تأمين الجبهة الداخلية، فرغم ابتعاد مدينتنا عن القاهرة بمسافة ٦٠٠ كيلو متر، إلا أنها كانت أقرب محافظات الصعيد «لجبهة البحر الأحمر»، بل إنها كانت فى ذلك الوقت النافذة الوحيدة للصعيد الأعلى: «المنيا، أسيوط، الوادى الجديد، سوهاج، فقنا وحتى أسوان»، وكان مهما أن يكون المسافر لمدن القصير وسفاجا والغردقة ورأس غارب، حاصلا على تصريح بالمرور وكان اسمه «التصريح الأحمر»، باعتبار محافظة البحر الأحمر كلها منطقة عسكرية محظورة.
مع «تلك الساعة».. عشنا الأيام التالية فى استنفار واهج، فقد تم تأجيل الدراسة وتفرغنا جميعا لأعمال المنظمة، وبدءا من يوم التاسع من أكتوبر بدأ مستشفى قنا المركزي فى استقبال جنودنا الجرحى الذين فضلت القيادة العسكرية إرسالهم إلى المشافى البعيدة.
ومع «تلك الساعة» عايشنا المهمة الأصعب، وهى أن نصاحب لجانا مختلطة بين الاتحاد الاشتراكى العربى ومديرية الأمن لإبلاغ أهالى الجنود باستشهاد أبنائهم، صحيح أننى لم أر أما تولول، وهذه شهادة للتاريخ حيث كانت الدموع الصامتة هى ما يواجهنا فى نهاية كل زيارة، إلا أننى لا أنسى أما أطلقت زغرودة طويلة زفت بها استشهاد ولدها، كما لا أنسى جارى فى الشارع وصديق أخى الكبير، رامى الدبابة جندى مجند مؤهلات عليا ميشيل عبد الملاك الذى استشهد بعد معركة الدبابات الكبرى، ولا الجملة التى قالها الفريق سعد الدين الشاذلى مهندس العبور والنصر فى حلقة خاصة على قناة فضائية إن معظم شهداء المعركة كانوا «صعايدة» لأن الكثير جدا منهم كانوا فى موجات العبور الأولى، باعتبار أنهم يملكون «ثقافة الثأر» التى كانت الشئون المعنوية حريصة على بثها فى نفوس الجنود..
إنها تلك الساعة..!