المبادرة التاريخية التي طرحها الرئيس «عبدالفتاح السيسى» في خطابه أمام الأمم المتحدة، وأعطى لها عنوانا له دلالة بالغة وهو «الأمل والعمل»، تعبر تعبيرا صادقا عن العنوان الدائم الذي اخترناه لهذا العمود الصحفى وهو «العبور إلى المستقبل».
وذلك لأننا أغرقنا في وصف ماضى المجتمع وضعنا في توصيف المشكلات المتراكمة في حاضرنا، نتيجة تصور أداء النظم السياسية السابقة منذ عام ١٩٥٢ حتى ثورة ٢٥ يناير. وآن الأوان لكى نعبر إلى المستقبل، وفق رؤى مدروسة تغير من أحدث إبداعات العلم الاجتماعى المعاصر وعن الدراسة المقارنة لخبرات الدول التي نجحت في العبور من التخلف إلى التقدم.
ولم يكن ممكنا لى كباحث في العلم الاجتماعى أن أطلع على نص المبادرة كما ورد في خطاب الرئيس لولا الجهد الصحفى المتميز لمجموعة من المحررين مثلوا بعثة جريدة «اليوم السابع» لتغطية رحلة الرئيس إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وأنا اعترافا بفضل هؤلاء الشباب أورد أسماءهم كما وردت في تقريرهم الذي نشرته «اليوم السابع» يوم الأربعاء ٣٠ سبتمبر تكونت المجموعة من «يوسف أيوب»، و«محمد الجالى»، و«محمود الضبع»، و«أسماء مصطفى»، و«عمر خالد»، و«إبراهيم حسان» وقامت بالتصوير «دينا رومية».
استطاعت هذه الكتيبة الإعلامية أن تقدم تقريرا مركزا عن المفردات الرئيسية لمبادرة «السيسى» عن الأمل والعمل.
والواقع أن هذه المبادرة تأتى بعد مبادرة «السيسى» التاريخية والتي تمثلت في حفر قناة السويس الجديدة، بناء على مفهوم عصرى ومصرى خالص. وتبدو العصرية في تحديد مجال زمنى لا يزيد على عام لإنهاء العمل على أرفع المستويات التكنولوجية، أما المصرية فتتمثل في دعوة جماهير الشعب للاكتتاب لإنجاز المشروع بأموال مصرية خالصة. وأقبلت الملايين لتمويل تكلفة المشروع الهندسى الضخم في أيام معدودة.
كانت هذه المبادرة التاريخية أول إشراقات ما أطلقنا عليه في مقال لنا بـ«الأهرام» «عودة الدولة التنموية»، وهو مفهوم جديد تمام الجدة في التحليل السياسي، وأقمته أساسا على الخبرة المصرية التي تتمثل في التجربة التاريخية الفريدة لـ«محمد على» حاكم مصر الذي أسس أول دولة تنموية في العالم العربى، لأنه جعل التنمية الشاملة للمجتمع هي الهدف الأسمى من أهداف الدولة. وهو لم يترك مجالا من مجالات التنمية إلا اقتحمه مفكر مستحدث. وهكذا أسس المدارس العسكرية والمدنية وأقام المصانع ونشر التعليم وقام بإصلاح زراعى واسع المدى، واقتبس من التشريعات الأجنبية مدونات قانونية مصرية، بل إنه أسس مدرسة للترجمة جعل مديرها هو رائد الفكر العربى الشيخ «رفاعة الطهطاوى».
دولة «محمد على» بإجماع المؤرخين كانت أول دولة عصرية تنشأ في العالم العربى.
وتطورت الدولة المصرية بعد ذلك في عهود سياسية متتالية شهدت إنجازات كبرى وإخفاقات ملموسة في بعض الأحيان، إلى أن قامت ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢ بقيادة الزعيم «جمال عبدالناصر» الذي جدد في بنية الدولة التنموية وجعلها في ضوء التنمية الشاملة التي بادر بها تقوم أساسا على العدالة الاجتماعية.
ويمكن القول بكل موضوعية إن عصري «السادات» و«مبارك» كانا عصرين سلبيين، لأنهما ابتعدا عن شعار العدالة الاجتماعية، وتركزت السلطة والثروة فيهما في أيدى النخب الحاكمة وحلقاتها من رجال الأعمال الفاسدين. وهكذا تراكمت شعارات الأمية والفقر والعشوائية.
ونستطيع الجزم الآن بأن الدولة المصرية والتي أنقذت من المهاوى العميقة لحكم الإخوان المسلمين تشهد الآن على يد «عبدالفتاح السيسى» التأسيس الثالث للدولة التنموية.
والدولة التنموية تعنى أنها هي التي تقوم أساسا بالتنمية القومية تخطيطا وتنفيذا، ولا يعنى ذلك إطلاقا استبعاد القطاع الخاص من المشاركة الفعالة، لكنه سيعمل تحت إشراف الدولة ورقابتها منعا للفساد الذي شهدناه في عصر «مبارك» الذي أدى إلى شيوع التخلف وإنقاذ ملايين المصريين.
وتأتى المبادرة الجديدة التي أطلقها في نيويورك من على منصة الأمم المتحدة الرئيس «السيسى» إشراقة جديدة من إشراقات الدولة التنموية لا تقل إن لم تزد عن مبادرة قناة السويس واستزراع مليون ونصف فدان.
ويرجع ذلك إلى أن المبادرة تعكس اتجاها صاعدا في العلم الاجتماعى المعاصر يرى أن مهمة علم الاجتماع أن يتوجه ببحوثه إلى الجماهير وليس للنخبة، وأن وظيفته الأساسية بث الأمل لديها في أنها تستطيع بقواها الفاعلة العبور من التخلف إلى التقدم وفق رؤية متفائلة للعالم، مبناها أنه ليس هناك مستحيل إذا توافقت القيادة السياسية مع الإرادة الجماهيرية التي تسعى للحرية والعدالة الاجتماعية.
للمبادرة رؤية محددة تسعى لجذب الشباب إلى بناء المستقبل وإبعادهم عن التطرف، وهى تستهدف الشباب أساسا، لكنها لا تقتصر عليهم، لأنها موجهة إلى عموم الجماهير.
وتقوم المبادرة على خمسة مفاهيم أساسية.
المفهوم الأول يتعلق بالسياسة المثلى لمواجهة الإرهاب الذي يهدد أغلى حقوق الإنسان، وهو «الحق في الحياة» من خلال تعاون دولى فعال.
والمفهوم الثانى يقرر أن السياق الإقليمى والدولى يتطلب أفكارا جديدة في الحرب ضد الإرهاب تتعلق بالإجراءات غير الأمنية.
ومن هنا تلعب المبادرات الثقافية وإجراءات الوقاية دورها من خلال طرح البدائل التي تتيح اجتذاب الشباب والجماهير عموما من خلال أعمال إيجابية، قبل أن يتعرضوا للأفكار التي تحض على العنف.
والمفهوم الثالث يهدف إلى ملء الفراغ لدى الشباب، وهو ما يتطلب منحهم الأمل واستثمار طاقاتهم في مجالات التعليم والبحث العلمى والفنون. والمفهوم الرابع أن اختلاف النظم السياسية وآليات الحكم لا ينبغى أن يكون عائقا دون إعطاء الأمل لأفراد المجتمع ليس فقط عن طريق إعطاء الحقوق، لكن من خلال تأكيد أن التقدم لا يمكن أن يتم إلا عبر تعاون وثيق بين الحكومات والأفراد في ميادين رفع مستوى المعيشة، وتوفير فرص العمل والإسهام في الأنشطة الاجتماعية والثقافية. والمفهوم الخامس والأخير يتوجه إلى الدول المتقدمة، لكى تقوم بمسئولياتها في إعطاء الخبرة للدول النامية عبر برامج تعاون تقوم على المساواة وعدم التمييز.
كما أن الدول النامية تحتاج إلى أن تستنهض إرادتها المجتمعية، لكى تخرج من دائرة الأزمات ونقص الموارد.
هذه هي الملامح الرئيسية لمبادرة «الأمل والعمل»، وهى تأتى مباشرة بعد أن أعلن الرئيس «السيسى» البرنامج الرئاسى الخاص بتمكين الشباب في صورة برامج تدريبية مفتوحة لكل من يلمس في نفسه القدرة على أن يكون من قادة المجتمع في المستقبل. هذه هي الدولة التنموية بقيادة «السيسى» تقتحم المشكلات بجسارة وتبدع سياسات جديدة فعالة تعطى الأمل لملايين المصريين في حياة إنسانية مستدامة.