أنظر إلى فوز نادى الزمالك التاريخى، ببطولة الكأس عقب انتصاره على النادى الأهلى، (منذ ٥٧ عامًا لم يفز على النادى الأهلى فى الكأس ومنذ ٢٨ عامًا لم يجمع بين بطولتى الدورى والكأس ومنذ ١٢ عامًا لم يفز ببطولة الدوري) من زاوية- جد- سياسية.
إذ يرتبط ذلك الملف وما أحاط به من ظواهر بالعملية الديمقراطية ومدى قبول العقل والمزاج المصرى لتلك الديمقراطية، ولآلياتها المتمثلة فى قبول الآخر، وتداول السلطة، والتعددية وغير ذلك.
وبقول واحد، ومن عدد من المظاهر التى رافقت الحدث، فقد تيقنت من أن العقل الجماعى المصرى ليس ديمقراطيًا، لا يقبل اختلافًا ولا يقر بالتنازل أمام خسارته، ولا يعترف بانتصار الآخر.
جماهير النادى الأهلى وإدارته أظهروا حجمًا هائلًا من رفض الاعتراف بانتصار نادى الزمالك، وما يترتب عليه من كسر احتكار السلطة الرياضية، وفرض تداول تلك السلطة بعد أن حدث نوع من تأييدها لصالح الأهلى مدة استطالت بطريقة غير منطقية.
وعلى الرغم من أن بعض أفراد أو تجمعات داخل الكتلة الضخمة المؤازرة للنادى الأهلى، عمدوا إلى إظهار بعض الروح الرياضية والاعتراف بأحقية الزمالك فى الفوز، وذهب جزء منهم إلى تهنئة الفائز، فإن ذلك التيار المحدود لا يشكل موقفًا مؤثرًا على شعور وسلوك عموم مشجعى النادى الأهلى، وهو يظل- فى التحليل الأخير- تعبيرًا عن أفراد أكثر منه انعكاسًا لحالة يمكن تعميمها على جمهور الأهلى.
التعصب.. العدو الأول للديمقراطية.
وقد شاهدت بعين رأسى البدايات الضخمة للتعصب (وقت أن حضرت- طفلًا- مباراة بين الأهلى والزمالك مع أبى باستاد ميت عقبة فى السيتينيات) وحينها فاز الزمالك بهدفين للا شيء، وأحرزهما حمادة إمام وعمر عبد النور، وهاج جمهور الأهلى واحتج لاعبوه على الهدف الثانى، مدعين أنه جاء من تسلل، وأن الحكم (فتحى نصير) احتسبه انحيازًا للزمالك، وهو ما أثبت الناقد محيى الدين فكرى كذبه فى مجلة المصور، حين نشر على صفحتين ما وصفه بأنه (صورة دامغة)، مشيرًا إلى وقوف مدافع النادى الأهلى أبو غيدة على خط المرمى، بما يدحض أى احتمال لتسلل مهاجمى الزمالك، أو محرز الهدف، ولكن الحقيقة ضاعت فى خضم التعصب، الذى دفع الجمهور الهائج إلى تحطيم استاد ميت عقبة (عبد اللطيف أبو رجيلة الآن)، وإحراق مخازن بعض الشركات المستأجرة تحت المدرجات، وعاشت الساحة الرياضية جوًا مشحونًا، انتهى بنقل مباريات الأهلى والزمالك إلى استاد القاهرة.
هذا هو المشهد الافتتاحى لسقوط الديمقراطية فى ساحة كرة القدم المصرية، وقد تكرر بعد ذلك بتنويعات مختلفة فى مناسبات متعددة.
وتطور الأمر- بعد ذلك- بمغالاة النادى الأهلى فى الحديث باسم (الأغلبية)، حتى فرض الأهلى على المؤسسات والأجهزة الرياضية الرسمية والقومية الخضوع (لديكتاتورية) تلك الأغلبية وتأسيس نظام كرة القدم (التسلطي) و(الشمولي).
وكأى تجمع له هذه الصفة، كان من الطبيعى أن تنشأ له أداة تحمى مصالحه بالعنف وتفرض سيطرته بالقوة، يعنى ما يشبه (الميليشيات) للتنظيمات التسلطية.. وقد كانت جماعات الأولتراس هى تلك الميليشيات، رغم أن الروابط الجماهيرية- فى الأصل والأساس- هى تجمعات ترتبط بناديها ومحبته وتسعى لتشجيعه بطرق مبتكرة فى إطار الروح الرياضية.
ولما كانت مصر عاشت فترة مخيفة من الانفلات والفوضى أثناء عملية يناير ٢٠١١ وما بعدها، وقد تم خلالها استخدام جماعات الأولتراس بواسطة تنظيم الإخوان الإرهابيين وغيرهم من زمر الجواسيس والعملاء الذين تدربوا فى صربيا وأكاديميات التغيير فى قطر وبريطانيا والولايات المتحدة، ولنضف إلى ذلك أن بعض أعضاء المجلس السابق فى الأهلى الذين ترشحوا فى الانتخابات للمجلس الحالى هم من كبار المؤيدين لجماعة الإخوان الإرهابية، ومن أعضاء العصبة المرتبطة بقطر التى قادت العمليات إبان عملية يناير ٢٠١١، لا بل وهم أول من احتضن الأولتراس، وشجعهم وخلق منهم ذلك الكيان المخيف الذى لم يجد خيرت الشاطر صعوبة فى توظيفه لضرب استقرار البلاد ومؤسساتها العمد.
الإمعان والإيغال فى إفشاء روح التعصب على ذلك النحو، دفع بعض مسئولى فريق الكرة فى النادى الأهلى مثل مدير الكرة عبد الصادق إلى اتخاذ مواقف أقل ما توصف به أنها غير رياضية أو أخلاقية أو وطنية، إذ كان ما ارتكبه ذلك الشخص فى حق مندوب الرئاسة ووزير الشباب وممثل اتحاد الكرة مروعًا حتى لو صافحهم، فما جاء منه فى حق رئيس نادى الزمالك، وفى حضور تلك الكوكبة الممثلة للدولة المصرية بمؤسساتها المختلفة، هو عمل تخريبى يناقض الروح الديمقراطية على الكلية والتفصيل حتى لو ادعى أنه رد فعل على ما وصفه بتجاوزات رئيس نادى الزمالك ضد رئيس النادى الأهلى.
إذ ليس من وظيفة مدير الكرة «التشبيح» فى وجه ما يتصور أنهم أعداء رئيس النادى الأهلى.
وثانيًا، فإننى أعرف المهندس محمود طاهر شخصيًا، وأعرف أن مثل تلك الأساليب لا تمثل شخصيته أو أسلوبه.
وثالثًا، أعتقد أن المسائل لو تُركت- منذ بداية البدايات وقبل أن تتعقد على ذلك النحو- لرئيس النادى الأهلى من دون إحاطته بكل هذا التوتر الذى يخفى عجز الجهاز الفنى عن تحقيق شيء يذكر فى هذا الموسم، فإن الأمر كان سيختلف، وبخاصة أننا جميعًا نعرف وأنا على يقين أن المهندس محمود طاهر يعرف أن رئيس نادى الزمالك المستشار مرتضى منصور، على الرغم من عصبيته أو ردود فعله العنيفة رجل طيب القلب له أخلاق أولاد البلد، وهو كادر مهنى ووطنى رفيع من دون حاجة إلى التذكير بمواقفه الدالة العلامات، وأولها حصار الوايت نايتس بالقانون، على نحو أدى إلى صدور الحكم التاريخى باعتبار روابط الأولتراس جماعات إرهابية مسلحة، وبما انكشف- أيضًا- علاقة الوايت نايتس بالجماعة الإسلامية والإرهابى حازم أبو إسماعيل.
ورابعًا، فإن التكافؤ مفقود بين المستشار مرتضى منصور وعلاء عبدالصادق، إذ أنه من المفهوم أن يرد رئيس ناد على رئيس ناد، أما حكاية تدخل مدير كرة ومحاولته الاشتباك مع رئيس النادى، فهو أمر غير مفهوم، وغير معقول كذلك!
نهايته، مشاهد ما بعد الفوز التاريخى للزمالك تؤكد- على نحو قاطع- فقدان المصريين للحس الديمقراطى، ولأبجديات الثقافة الديمقراطية، وبما يؤكد أن النادى الأهلى كمؤسسة عريقة (أكبر مؤسسة مجتمع مدنى فى مصر) يحتاج إلى تصحيح نفسه مؤسسيًا، وإعادة تأهيل كوادره، وبناء خطاب ديمقراطى حقيقى يسعى إلى تحقيق اعتياد المسئولين فى ذلك الكيان المؤسسى على ثقافة تداول السلطة، وعدم تصور حالة انتصار أبدى واحتكار لتلك السلطة تبعا لذلك الانتصار.
نحن نشاهد بعد كل انتخابات فى العالم المتقدم، كيف يتصل المهزوم ليهنئ الفائز، وليس فى هذا عيب أو خضوع مطلق لفكرة الهزيمة، ولكنه استيعاب لدروسها ومحاولة علاج الأخطاء وتحقيق نتيجة أفضل فى جولة أخرى.. أما إذا تمكنت فكرة (الواحدية) من كيان ما، وبدأ فى نفى الآخر وعدم الاعتراف به، وعدم تصور الهزيمة منه، فذلك بداية تؤسس للعنف وتقضى على الديمقراطية قضاء مبرمًا.