الجمعة 22 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

التعليم واستعادة كفاءة جهاز المناعة المصري

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
كانت هزيمة 67 نقطة البداية لتغيرات عميقة فى بنية المجتمع المصرى، وأحوال التعليم جزء من نسيج أحوال الوطن الذى اجتاحه إعصار 67، حيث شهدت بداية السبعينيات إثر هزيمة 1967، موجة كثيفة من هجرة أعداد كبيرة من المهنيين والعمال من أبناء ثورة يوليو إلى دول الخليج البترولية، خاصة المملكة العربية السعودية، وتزايدت كثافة تلك الموجات مع السبعينيات،
التقى هؤلاء بجيل سبقهم إلى هناك منذ منتصف الخمسينيات فرارا من العسف الناصرى بجماعة الإخوان المسلمين، واندمج الجميع فى المناخ الفكرى والقيمى والاجتماعى السائد هناك، ولم يكن غريبًا أن يلقى ذلك المناخ هوى لديهم، إنهم قادمون من وطن مهزوم لا يعرفون سببا عقلانيا لهزيمته، لم تقدم لهم أجهزة الإعلام القومية الاشتراكية تفسيرا مقنعا لما حدث، وأصبحوا مهيئين لانتشار تأويل دينى محدد للهزيمة، وكان من الطبيعى تمامًا أن يترك المناخ الفكرى السائد فى هذه الدول بصماته عليهم ليعودوا إلى أوطانهم وقد تشبعوا به.
من تلك البصمات الإيمان بأن تدهور واقع المسلمين يرجع أساسا إلى ابتعادهم – وليس ابتعاد الدولة فحسب - عن صحيح الدين واقترابهم من «العلمانية»، وكان من تلك البصمات أيضا أن العنف هو السبيل الأمثل لسيادة الحق، وثمة بصمة ثالثة لعلها الأخطر والألصق بموضوعنا، لقد امتص هؤلاء الأبناء منظومة قيمية يغلب فيها الشكل على المضمون، والهدف على الوسيلة، والمظهر على الجوهر، والشعائر على المعاملات، وعاد الأبناء بمدخراتهم وقيمهم ليصبحوا بمثابة الضمير الجديد للأمة.
ولو أعدنا النظر فيما أشرنا إليه من مشكلات تعترى أحوال التعليم فى بلادنا لاتضحت الصورة؛ ففى ظل هذا المناخ القيمى يصبح من الطبيعى تماما أن يكون الحصول على «الشهادة» هو الهدف بصرف النظر عن نوعية المضمون ويصبح «الغش» وسيلة مشروعة لتحقيق ذلك «الهدف» خاصة إذا ما اعتبرناه نوعا من «المساندة» أو «التكافل» أو «التعاون» ويصبح التمايز الحاد بين «مصروفات» تعليم العامة وتعليم الخاصة مع تدهور المضمون الحقيقى لكل منهما شكلا مقبولا من تفاوت الأرزاق ويصبح الفصل بين «الجهد المبذول فى العمل» و«العائد المادى» أمرا لا يثير اندهاشا، ويصبح «العنف» بكافة أشكاله هو السبيل الأمثل للمكانة والنفوذ.
ما الحل إذن؟ ما العلاج؟ أستأذنكم فى استعارة النموذج الطبى، لا سبيل لعلاج المريض إلا عبر تشخيص دقيق للمرض، تشخيص يتجاوز الأعراض الظاهرة التى تكون عادة ملحة مؤلمة، ليصل إلى السبب الذى يكون عادة خافيا صامتا، وبدون ذلك يظل المريض مريضًا حتى لو اختفت بعض الأعراض.
لقد كان من نتائج كارثة يونيو ٧٦ أن أصيب جهاز المناعة لدى الشعب المصرى بوهن شديد، ومن خلال ذلك الوهن تسلل المرض لتنتشر أعراضه فيما بعد فى أحوال الحياة المصرية كلها وليس فى أحوال التعليم فحسب، ومن ثم فإن محاولات إصلاح التعليم مهما كان الجهد المبذول فى تحققها وهو جهد هائل بالفعل، تظل تلك الجهود قاصرة طالما تركزت على مجموعة الأعراض التى تعانى منها الحالة التعليمية، دون أن تتسع المعالجة لتشمل الأعراض التى تعانى منها الأحوال المصرية، ولتتجاوز هذه الأعراض الظاهرة سعيًا لتحديد سبب العلة والتصدى له.
لا أظن أن ثمة وصفة جاهزة لعلاج أحوال التعليم فى بلادنا، ليس العلاج مجرد تغيير فى المناهج والمقررات، أو تعديل لنظم الامتحانات، أو تدريبات متقدمة للمعلمين، أو زيادة فى أعداد المدارس، كل تلك الأمور جيدة ومطلوبة وتحدث بالفعل، يكمن العلاج فى استعادة كفاءة جهاز المناعة المصرى بحيث يستطيع التخلص من الشوائب التى تسللت إليه وعلقت به، وتبنى تلك المنظومة القيمية التى عرفها فى زمن الليبرالية القصير والتى سمحت بإقامة أولى الجامعات فى الوطن العربى دون التخلى عن الانتماء الإسلامى والعربى، ولتلك قصة قد تطول، ولعل الوقت والجهد يتسعان لمواصلة بيان ملامح المناخ الذى تمكن فيه المصريون من إقامة بناء تعليمى حديث، وكيف تدهور هذا البناء.
وإنى لموقن أن الشفاء قادم لا محالة، وهو أمر ليس بالمستحيل إذا ما صح العزم، ولعل التقلصات الاجتماعية التى تشهدها بلادنا، قد تكون بشيرا، ولا أقول نذيرا ينبئ بالشفاء القادم.