الأحد 02 فبراير 2025
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

ملفات خاصة

في الشعر الجاهلي.. طه حسين يدخل "عش الدبابير" في مواجهة الجميع

الدكتور طه حسين
الدكتور طه حسين
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
منذ حوالي تسعين عاما وبالتحديد عام 1926م أصدر الدكتور طه حسين أهم كتابا حاول البحث فى تاريخ الأدب العربي، وهو كتابه «فى الشعر الجاهلي»، هذا الكتاب الذى كان بمثابة الكارثة التى هبطت على رءوس كل من ينتمون إلى العربية، أو يدرسونها، حتى أن الكتاب قد أثار ضجة لم يسبق لها مثيل، واستعداء لم يتوقف تجاه مؤلفه طه حسين، بل واتهامه بالإلحاد.
حاول حسين الارتكان منذ بداية بحثه على اعتماد منهج الشك الذى ابتدعه الفيلسوف الفرنسى رينيه ديكارت فى القرن السابع عشر الميلادي، كى يصل الباحث من خلاله من الشك إلى اليقين، ولكن لأن عقليتنا العربية لا تحتمل الشك فى القديم، ومن ثم ترغب فى وجوده كما هو وكأنه مقدس لا يمكن الاقتراب منه؛ فلقد كان الهجوم الضارى على حسين الذى ضاقت المطابع حينذاك بسبب كثرة الكتب التى تمت طباعتها من أجل الهجوم عليه وعلى بحثه المهم.
يقول طه حسين فى كتابه: «الكثرة المُطلقة مما نسميه شعرا جاهليا ليست من الجاهلية فى شيء، وإنما هى مُنتحلة مُختلقة بعد ظهور الإسلام، فهى إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم أكثر مما تُمثل حياة الجاهليين، وأكاد لا أشك فى أن ما بقى من الشعر الجاهلى الصحيح قليل جدا لا يمثل شيئا، ولا يدل على شيء، ولا ينبغى الاعتماد عليه فى استخراج الصورة الأدبية الصحيحة لهذا العصر الجاهلي»، ومن هنا يتضح لنا أن الباحث اعتمد منذ بداية التفكير فى بحثه على الشك فى هذا التراث متخلصا من كل أفكاره القديمة التى عرفها من قبل؛ ولذلك رأى أن هذه الوفرة فى الشعر الجاهلى بالفعل لا يمكن أن يقبلها عقل أو منطق؛ نظرا لأن هذا الشعر كان يُنقل شفاهة ولم يتم تدوينه، كما أن الكثير من الرواة ماتوا فى الحروب وغيرها، وبالتالى لا يمكن أن يُنقل إلينا كل هذا التراث بهذه الوفرة، حيث لم تُعرف الكتابة والتدوين إلا قبل الإسلام بقرن واحد فقط من الزمان، وهو ما ينفى أن يكون كل ما وصل إلينا بالفعل من تأليف شعراء عاشوا فى العصر الجاهلي.
ربما كان أهم ما وصل إليه حسين هو إنكار ما نُسب إلى الحياة الجاهلية من شعر، وإثبات أن الشعر الجاهلى تم وضعه بعد الإسلام، ثم نُسب إلى الجاهليين؛ لأسباب سياسية ودينية وعصبية قبلية، ولإثبات القبائل القصص والأساطير خاصتهم، واستدل بذلك من تاريخ اللغة العربية، فلغة عرب الجنوب الحميرية تختلف عن لغة عرب الشمال الفصحى فى ألفاظها، وقواعد نحوها وصرفها، فكيف يُنسب شعر لشعراء من الجنوب بلغة أهل الشمال، أما ما أثار حفيظة الكُتاب ضده أنه استدل على ذلك بالقرآن، فقال: «مرآة الحياة الجاهلية يجب أن تُلتمس فى القرآن لا فى الشعر الجاهلي».
يؤكد طه حسين من خلال بحثه على أن كل الشعر الجاهلى قد وُضع بعد الإسلام ممن اعتنقوا الإسلام، ثم نسبوه إلى العرب فى العصر الجاهلي، وكان السبب فى هذا الوضع وانتحال العديد من الأسباب السياسية والدينية، كأن تحاول قريش الإعلاء من شأنها بين القبائل الأخرى، أو محاولة الأمويين إثبات أنهم الأحق بكل شيء فى أمور الحياة، أو محاولات إثبات أمر من أمور الدين حسب تفسيرهم وأهوائهم؛ ما جعلهم يحاولون تأليف الشعر الذى يُثبت ما يذهبون إليه ثم ينسبونه فيما بعد إلى العرب فى الجاهلية، فيقول فى ذلك: «إن الكثرة المطلقة مما نسميه شعرا جاهليا ليست من الجاهلية فى شيء، وإنما هى مُنتحلة مُختلقة بعد ظهور الإسلام، فهى إسلامية تُمثل حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم أكثر مما تُمثل حياة الجاهليين، وأكاد لا أشك فى أن ما بقى من الشعر الجاهلى الصحيح قليل جدا لا يمثل شيئا ولا يدل على أى شيء، ولا ينبغى الاعتماد عليه فى استخراج الصورة الأدبية الصحيحة لهذا العصر الجاهلي، وأنا أُقدر النتائج الخطرة لهذه النتيجة، ولكنى مع ذلك لا أتردد فى إثباتها وإذاعتها، ولا أضعف عن أن أعلن إليك وإلى غيرك من القراء أن ما تقرأه على أنه شعر امرئ القيس، أو طرفة، أو ابن كلثوم، أو عنترة ليس من هؤلاء الناس فى شيء، وإنما هو انتحال الرواة أو اختلاق الأعراب أو صنعة النحاة، أو تكلف القصاص، أو اختراع المفسرين والمحدثين والمتكلمين».
يخلص حسين إلى أن الشعر الذى يُضاف إليه الجاهليون يمثل حياة غامضة جافة بعيدة عن الدين، بينما القرآن يمثل لنا حياة دينية وعقلية قوية، ويمثل لنا القرآن الكريم أيضا اتصال العرب بغيرهم من الأمم المجاورة كما يصور حياة العرب الاقتصادية، فى حين يخلو الشعر الجاهلى من ذلك كله، كما ذهب إلى أن الأدب الجاهلى أيضا لا يمثل اللغة الجاهلية؛ لاختلاف اللغة الحميرية عن اللغة العدنانية جد الاختلاف، والمأثور من شعر الشعراء القحطانيين مروى باللغة العدنانية مع أنهم لم يكونوا يتكلمون بها، ولم يتخذوها لغة أدبية لهم قبل الإسلام كما حدث بعد الإسلام؛ ما يدل على انتحال هذا الشعر وسواه من فنون الأدب على هؤلاء القحطانيين، كما أن اختلاف اللهجات العدنانية أمر ثابت لاشك فيه، ولا نجد أثرا لهذا الاختلاف فى الشعر الجاهلى المأثور، ما يدل على انتحال هذا الشعر، وأنه قد حمل حملا على هذه القبائل بعد الإسلام، فليس من المعقول أن يكون الشعر الجاهلى بالكامل على لهجة واحدة من لهجات العرب وهى لهجة قريش فقط.
يذكر الدكتور طه حسين فى كتابه أسباب انتحال الشعر الجاهلي، فيذكر البواعث الدينية والسياسية، وأثر القصاص والشعوبية والرواة فى هذا الانتحال، ثم يستعرض الشعراء مؤكدا ما ذهب إليه من أن أكثر ما يضاف إلى هؤلاء الشعراء الجاهليين منحول، رافضا الشعر المنسوب إلى شعراء اليمن؛ لأن لليمن لغة تُخالف لغة قريش ويقول: «إن هجرة اليمنيين إلى الشمال مشكوك فيها أولا، وليس كل الشعراء هاجروا من اليمن ثانيا، فالشعر الذى يضاف إلى «جُرهم» وسواهم من الذين عاصروا إسماعيل منحول، وليس لليمن فى الجاهلية شعراء، أما ربيعة وهى من عدنان، وتسكن فى الشمال، فشعرها دون شعر المضريين، وأما مضر فكان لها شعراء يتخذون الشعر فنا، فالشعر أصل فى مضر دون اليمن أو ربيعة، فنظرية تنقل الشعر فى القبائل غير صحيحة، فالشعر إنما كان فى مضر ثم انتقل إلى أقرب القبائل العربية إليها، وهم ربيعة ثم إلى القبائل البعيدة، كاليمن، ثم إلى الموالى وليس كما يقول علماء العربية من أن الشعر كان فى اليمن، ثم انتقل إلى ربيعة، ثم إلى قيس من مضر، ثم إلى تميم، وشعراء المدينة ليسوا يمنيين، بل هم مضريون».