لو سألتنى عن منطق تغيير الوزارات فى مصر المحروسة لأجبتك على الفور ليس له أى منطق!
وذلك لسبب بالغ الأهمية هو أنه فى المجتمعات الديمقراطية العريقة يتم تشكيل الوزارات بناء على فوز حزب سياسى محدد فى الانتخابات الدورية.
فى إنجلترا -على سبيل المثال- هناك حزبان رئيسيان يتناوبان تشكيل الوزارة هما حزب العمال وحزب المحافظين، ولكل حزب كما هو معروف، أيديولوجية سياسية محددة المعالم توجه سياساته فى الاقتصاد والصحة والتعليم والثقافة.
ولذلك ليس هناك مجال للحديث فى مجال اختيار الوزراء، عن البحث عن الأشخاص الأكفاء الذين لديهم رؤية سياسية! فالرؤية السياسية متوافرة لأن هؤلاء يكونون عادة أعضاء عاملين فى الحزب، وسبق لهم أن خاضوا معاركه تحت راياته.
ومن التقاليد الراسخة فى الممارسة الحزبية البريطانية أن الحزب المعارض وهو خارج السلطة عادة ما يشكل «حكومة ظل»، تتشكل من وزراء يشغلون نفس اختصاصات الوزارات القائمة كالتعليم والصحة والاقتصاد، حتى يعكفوا على دراسة ملفات هذه الموضوعات، ويكونوا جاهزين ببرامج وسياسات قابلة للتنفيذ إذا ما كسب الحزب الانتخابات النيابية وشكل الوزارة.
ولكن عندنا فى مصر- نتيجة تطورات سياسية شتى منذ ثورة يوليو ١٩٥٢ التى ألغت الأحزاب السياسية- وضع حزبى متخلف للغاية. وذلك لأنه منذ أن أعيدت الأحزاب السياسية فى عهد الرئيس الراحل «أنور السادات»، الذى رسم لها خطة جامدة وقسمها إلى يمين ووسط ويسار، لم تستطع أن تسترد عافيتها القديمة قبل ثورة يوليو.
وحتى حين سمح لها بأن تتوسع فى عصر «مبارك» لم تستطع أن تظهر أحزابا قوية لها قيادات بارزة تتميز بالرؤى السياسية الثاقبة، ولها جماهيرية تسمح لها بأن تكسب الانتخابات وتشكل الوزارة. وذلك لسبب بسيط هو أنها كانت تعمل فى ظل قيود سلطوية ثقيلة قيدت حركتها، ولم تسمح لها بأن تبنى قواعد جماهيرية فى ظل استمرار قانون الطوارئ، بالإضافة إلى النزعة السلطوية الغلابة لنظام الحكم.
لكل ذلك رسخت ممارسات الدولة المصرية فى اختيار الوزراء - ليس على أساس حزبى، وليس فى ضوء الرؤية السياسية لشخص ما - ولكن فى ضوء ما يعتقد أنه يملكه من خبرة أو كفاءة سواء كانت خبرة نظرية أو عملية فى أى ميدان.
ومما لا شك فيه- على الرغم من غياب الحياة الحزبية الحية التى تسمح فى البلاد الديمقراطية باختيار أفضل الكفاءات- أن الوزارات المصرية المتعاقبة زخرت بوزراء كانوا على أعلى مستوى مهنى، وأنجزوا إنجازات حقيقية، وإن كان هناك آخرون كانت شخصياتهم باهتة وأداؤهم ضعيفًا.
ومن هنا يمكن القول إن مهمة تشكيل الوزارات فى بلدنا فى غيبة أحزاب سياسية قوية تتنافس منافسة حقيقية فى الانتخابات النيابية الدورية- بالغة الصعوبة والمشقة. وغالبًا ما يضطر المكلف بتشكيل الوزراء إلى اختيار عدد من الذين لا يستحقون أن يكونوا من كبار الموظفين لا وزراء يخططون لسياسات ويباشرون تنفيذها.
ولعل من المشكلات الجسيمة أيضًا غياب الرؤى السياسية للوزارات المتعددة التى تتشكل.
وحتى لا نتحدث على سبيل التجريد، فلنسأل أنفسنا ماذا كانت الرؤية السياسية لمجلس الوزراء الذى رأسه الدكتور «حازم الببلاوى»؟ وماذا كانت الرؤية السياسية لمجلس الوزراء الذى رأسه المهندس «محلب»؟
والواقع أن توافر رؤية سياسية محددة لتشكيل وزارى ما ليس مسألة هينة أو ميسورة. وذلك لأنها تقتضى الاختيار المحدد بين بدائل متعددة، سواء كنا فى مجال الاقتصاد أو التعليم أو الصحة أو الثقافة.
ونحن نعلم سلفًا أن العالم المعاصر زاخر بالصراعات الأيديولوجية والخلافات السياسية التى تدور حول الموضوعات الأساسية التى تنظم حياة الشعوب.
خذ على سبيل المثال مجال الاقتصاد. وبعيدًا عن الاستقطاب الأيديولوجى الذى ساد القرن العشرين بين الرأسمالية والاشتراكية، فإن صانع القرار السياسى على أعلى مستوى عليه أن يختار صيغة اقتصادية مركبة تقوم على أساس وضع سياسة تنموية للدولة، وخلق مناخ مواتٍ للاستثمار سواء كان محليًا أو أجنبيًا. وإطلاق العنان للقطاع الخاص.
وهنا تبدو الخلافات الجوهرية بين نظام سياسى ونظام سياسى آخر، وهذه الخلافات تدور عادة حول ما هو دور الدولة فى الاقتصاد تدخلى أم تشجيعى؟
ولو انتقلنا إلى التعليم هل يكون فى كل مراحله بالمجان لكى يصبح «كالماء والهواء» كما نادى «طه حسين»، أم آن الأوان -كما ظهر مؤخرًا فى مصر- ضرورة أن يشارك الطلبة فى دفع تكاليفه؟
ومن هنا يمكن القول إن الدولة فى مصر لم تبذل فى عهودها السياسية المختلفة- مجهودات فكرية ومعرفية كافية لدراسة البدائل الممكنة فى مجالات الاقتصاد والصحة والتعليم والثقافة والصناعة والزراعة، والحساب الدقيق للتكلفة والعائد من كل سياسة.
لذلك غالبًا ما كانت تلجأ التشكيلات الوزارية المختلفة إلى ما يمكن أن نسميه «الارتجال السياسى»، أى تبنى سياسات غير مدروسة دراسة دقيقة، فإذا ثارت ضدها الجماهير عدلت عنها كلية، أو ضحّت ببعض أجزائها تلافيًا للسخط الشعبى.
وأبلغ مثال على ذلك ما نودى به فى ظل حكومة المهندس «محلب»، من أن سياسة وزارة التربية والتعليم هى القضاء نهائيًا على الدروس الخصوصية من خلال إغلاق المراكز التى تمارس فيها هذه الدروس.
غير أننى- وأنا أكتب هذا المقال- قرأت خبرًا مفاده أن هناك اتجاهًا لتقنين أوضاع مراكز الدروس الخصوصية حتى- كما قيل- لا ندفن رءوسنا فى الرمال!
لابد من وضع رؤية استراتيجية متكاملة لمصر المحروسة تصاغ على أساسها السياسات المختلفة.
اقتباس: رغم غياب الحياة الحزبية الحية فى مصر التى تسمح فى البلاد الديمقراطية باختيار أفضل الكفاءات، فإن الوزارات المصرية المتعاقبة زخرت بوزراء كانوا على أعلى مستوى مهني، وأنجزوا إنجازات حقيقية، وإن كان هناك آخرون كانت شخصياتهم باهتة وأداؤهم ضعيفًا.